غيمة الصمت
سلوى عباس
كل يوم يفاجئنا الموت برحيل ما، تسقط ورقة من شجرة الحياة، هذه الشجرة التي تتنوع أوراقها بشتى أشكال الإبداع، هكذا نجد أنفسنا في كل مرة نرثي فقيداً باغته الرحيل إلى فضاءات المجهول، واليوم نقف على عتبة الوداع لمبدع كانت له بصمته في تاريخ الإبداع السوري، رائد جمعته الحياة مع أشخاص موهوبين يفتحون في قلوبهم نوافذ تطل على الحياة، يحتضنون شوق الخيال لأعمال تتجسد واقعاً من حلم وجمال، مبدعون ساهموا في إغناء حركة أدبية مازال دربها مزهراً بالآمال، حيث كانوا مدركين للمسؤولية التي تقع على عاتقهم، ولأهمية الرسالة التي ائتمنهم عليها الناس، فعملوا على تجسيد قضاياهم وهمومهم عبر أعمال أدبية تشكل ذاكرة الأدب السوري بكل تفرعاته من أدب وقصة وشعر ونقد وغيرها من الأنواع الأدبية.
لم يدرك الأديب محمد راتب الحلاق أن النقطة التي وضعها في نهاية مقالته الأسبوعية الأخيرة ستكون نقطة النهاية مع الحياة والأدب حيث رحل عن عالمنا في اللحظة ذاتها التي نشرت بها مقالته الأخيرة وعنوانها “تغيير الثقافة أم ثقافة التغيير” التي تعتبر كوصية أخيرة له.. هذه المقالة كانت موعده الأخير مع قرائه عبر صحيفة البعث لعدة سنوات، وكانت تلك المقالة آخر ما خط قلمه الذي رافقه منذ طفولته، حيث البذور الأولى للإبداع الذي صقلته قراءاته لأدباء كبار.
اعتاد الراحل أن يرسل مقالته قبل يوم من نشرها وفي اليوم الذي حان موعد مقالته آنفة الذكر تأخر لليوم التالي فأرسلها مرفقة برسالة اعتذار عن تأخيره بسبب المرض الذي اشتد عليه وأنهكه مع أمنياته المعتادة لي بالخير التي كان يرفقها مع كل مقالة لكن رسالته في ذاك الصباح تضمنت: “صباح الخير أعتذر عن التأخير بسبب الوباء اللعين الذي شل حركتي وتفكيري.. دمت بخير ووقاك الله ما أصابني من هذا الوباء المدمر”. وكان قبل أيام قد كتب على صفحته يطلب من أصدقائه الدعاء له في محنته فظننت وظن معي الكثير من أصدقائه أنه عارض صحي سيتعافى منه ويعود لنشاطه، لكن القدر كانت له كلمة أخرى مغايرة لتوقعاتنا.
رحل الأديب الحلاق يحمل في حناياه كل الذكريات الجميلة التي عاشها مع أصدقاء أسس معهم حياة نابضة بالحب والوفاء، حياة بقيت ماثلة في وجدان أصدقائه الذين يفتقدونه، فالقدر فجعنا بالكثير من الأحبة والأصدقاء الذين غافلونا بالغياب، كما نحن اليوم نعيش غياب الأديب راتب حلاق هذا الاسم الذي أعطى للأدب بوحه فراح يردده الصدى عبارات من إبداع.
اليوم.. هاهم أصدقاء الراحل وعبر صفحات “الفيسبوك” الذي أصبح الوسيلة الأجدى للتواصل في زمن الوباء يقفون في حضرة الفقد لشخص غادرهم وتركهم للحزن يحرس ذاكرتهم ويفتحها على المقبل من أيام، فالحزن وحده يرتل الصلوات ويلتقط من طبقات الأثير تلك الحكايات التي كان يضمنها كتاباته.. إنه العمر يمضي بنا محكومون بالفراق الموجع، نرى أنفسنا على مفترق الموت فترتبك خطانا، ويضيق الهواء عن صدورنا، فقد أصبح الفقد طوقاً يلتف حول رقبتنا موتاً إثر موت.
لم ألتق بالأديب الحلاق أبداً ولم تتح لي الظروف أن أعرفه إلا من خلال مقالاته وتعليقاتنا المتبادلة على مقالاتنا في صفحاتنا الزرقاء، فكانت نقاشاتنا حول أي موضوع تحمل الكثير من الاختلاف والمحبة وهذا ماحملني أمانة تجاه أديب جمعتني به صداقة إبداعية وإنسانية أن أذكره بما يليق بأدبه وإنسانيته..
الأديب محمد راتب الحلاق الذي سكنت غيمة الصمت.. لترقد روحك بسلام.