“المقابسات” خلاصة فكر حُرّ لمفكر وفيلسوف حُرّ
نادراً ما يحضر اسمه في كتب الأدب العربي أو في كتب الفلسفة الأدبية والفكرية وحتى كتب التاريخ، وهو لأمر مستغرب، خصوصاً وأن أبو حيّان التوحيدي (310- 414 هـ /922– 1023م) غزير النتاج، رفيعه، فصيح البيان، عميق الفكر، محاور ألمعي، نادراً ما يجود الزمان بأمثاله، وصفه أهل الفكر في زمانه بـ: “فيلسوف الأدباء، أديب الفلاسفة، واسع الدراية والرواية، كثير التحصيل للعلوم في كل علم وفن” وغيرها من الصفات التي صارت ظلاً للرجل في زمانه وما تلاه من أزمان، وذلك من آثاره الأدبية والفكرية التي توسّع المدارك، وتعطي بُعداً مختلفاً لمفهوم الحوار والنقاش. جاء وصفه وفكره في بعض الكتب ومنها ما كتبه ياقوت الحموي (1179-1229) في كتابه “معجم الأدباء”، الذي استغرب هذا النكران لعالم ومفكّر وفقيه مثله، فَعلي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي -نسبة لبغداد التي أقام فيها- هو فيلسوف متصوف، وأديب بارع، من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه في بغداد وإليها يُنسب، واسع الثقافة، حاد الذكاء، جميل الأسلوب، تميّز نتاجه بتنوع المادة، وغزارة المحتوى، عدا ما تضمّنته كتبه من نوادر وإشارات تكشف بوضوح عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، صاحب رأي حاسم حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتّاب، والغريب أن ما وصل إلينا عن حياته سواء الشخصية والعامة، قليل ومضطرب، وأغلب الظن أن السبب في ذلك هو ما تعرّض له من تجاهل أدباء عصره ومؤرخيه، الأمر الذي استفز “الحموي” وجعله يُضمّن كتابه السابق الذكر، العديد من الأفكار التي وردت في كتب التوحيدي وكان هو من وصفه بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء، كنوع من ردّ الاعتبار لهذا العالم الفذّ ولو بطريقة غير مباشرة.
يعتبر كتاب “المقابسات” من أهم الكتب التي وضعها أبو حيّان، ولسوف يبدأ الملل ربما بالتسلّل لدواخل القارئ العجول لهذا الكتاب في بدايته، لكنه ومع تقدّمه في القراءة، سوف تنفتح أمامه العديد من العوالم المدهشة مما زخر بها هذا الكتاب، وسوف يتجلّى له بوضوح الترف الفكري الذي تضمّنته النقاشات وفي مختلف العلوم (فلسفة/ منطق/ أدب/ لغة/ أخلاق)، وبحضور أعلام في الفكر والأدب مثل: “أبو سليمان المنطقي/ يحيى بن عدي/ أبو حسن العامري/ مسكويه”، أما الأكثر إدهاشاً في “المقابسات” وما دار فيها من نقاشات عميقة في مختلف شؤون الفكر والأدب والفلسفة وغيرها، فهو وجود الانتماءات الطائفية المتعدّدة في مجلس واحد، يناقشون ويخوضون في العديد من المواضيع الفكرية والأدبية والفلسفية وحتى الرياضية، وقد أجاد وأتقن أبو حيّان في التعبير عن فلاسفة ومفكري عصره، ومنهم من لا نجد لهم ذكراً إلا في كتابه، رغم أهمية ما طرحوه وقدموه من أفكار غنية، سلسة، تثري العقل وتريح القلب، ومنهم “أبو سعيد السيرافي/ جعفر الخلدي/ أبو سليمان المنطقي.. وغيرهم”، سواء كانوا من المعلمين الذين تتلمذ على علمهم وفكرهم، أو من تلاميذه الذين أغنوا “مقابساته” بما طرحوه من أفكار فذّة وجدها التوحيدي تستحق الوقوف عليها وتأملها، فلم يهملها كما يفعل أدعياء الفكر، بل جعلها في معرض مؤلفاته، وهو بهذا يُظهر جانباً نبيلاً من شخصه، فعادة ما تكون الخصومة ومحاولة التسفيه والتقليل من شأن الأدباء والمفكرين والفلاسفة الآخرين، هي السائدة في تلك الأوساط، كما هي الحال اليوم، لكن ولأنه من أصحاب الفكر الحقيقي الذي ينعكس على جوانياته ويجوهر ما تذخر به نفسه، لم يسر في هذا الركب، بل كان من السباقين في التعريف بأهل العلم ومكانتهم.
يتضمّن كتاب المقابسات بشكل رئيسي، المسائل الوجودية والحوار بين المنطق واللغة الذي اشتدت حدّته في تلك الفترة، وبشكل عام فإن “المقابسات” خاض تقريباً في مختلف الأمور الفكرية، ومما ينطوي عليه هذا الكتاب القيّم، كثرة التمثيل عند العرب وكيفية انعكاس ذلك في القرآن، وهذا ربما السبب الفعلي في تجاهله وعدم الإتيان على نتاجه الغزير، فأهم ما يميّز كتاباته أنها كُتبت بعقليّة تدوينية للمستقبل، وهي ذات عمق فلسفي، تطرح موضوعات مختلفة ومتنوعة، ذات سقف حرّ في معالجة الأفكار والقضايا المطروحة في معرض نقاشاته الواسعة والمتنوعة المشارب.
“المقابسات” من الكتب الفلسفية في المقام الأول، لكنه يتضمّن مختلف ما هو أدبي ومعرفي، وصفه العديد من القراء بكونه من الكتب التي تستنفر العقل وتخلخل الثوابت التي يقف عند حدودها، خصوصاً في إثارته للكثير من الأسئلة التي لا تحتملها عقول كثير من الناس، وهذا ليس بالشأن الغريب في عوالم أهل الفكر والعقل، فلطالما حيكت عنهم الأساطير وقيل فيهم في المدح والذم الكثير، فإن لم يكن المفكر أو الفيلسوف أو العالم، الأديب والشاعر والفنان، صاحب فكر حرّ يأتي بما لم يأتِ به غيره من الناس، فلا ميزة له عنهم.
يقول صاحب “الإمتاع والمؤانسة” في مطلع واحدة من مقابساته: “إني نقلت هذا الكتاب والدنيا في عيني مسودّة، وأبواب الخير دوني منسدّة، لثقل المؤونة ولقلة المعونة، وفقد المؤنس، وعثار القدم بعد القدم، وانتشار الحال بعد الحال. هذا، مع ضعف الركن واشتعال الشيب وخمود النار وسوء الجزع، وأفول شمس الحياة، وسقوط نجم العمر، وقلة حصول الزاد، وقرب يوم الرحيل”، وهذا يدلّ على أنه وضعه في المراحل المتقدمة من حياته، ويمكن اعتبار ما جاء فيه بمثابة تلخيص لأفكاره الأخلاقية والفلسفية والأدبية.
تمّام علي بركات