صباح محي الدين.. كأنه علم في رأسه نار
يقدّم صباح محي الدين رأياً في القصة فيقول: العقدة: أقلّ شيء في القصة، قصيرة كانت أم طويلة، ففي أية صحيفة يومية عشرات الأخبار التي تصلح عقدة.. ذلك أنّ العواطف والدوافع والانفعالات معدودة، لا تتغيّر، وإنما يتغيّر موقف الإنسان منها، إذن فالمهمّ هو عرض الشخصية الرئيسية من العالم، هذا فيما يخصّ الجوهر، أما فيما يخصّ الشكل فثمة عاملان أساسيان:
– التشويق: على الكاتب أن يتحاشى ما يملّ منه القارئ، في كلّ صفحة، وكلّ فقرة وجملة، فيقبض على انتباه القارئ، ولا يفلته حتى آخر كلمة في القصة.
– الطبيعية: في الإمكان البحث في أي موضوع كان بشكل يتفق مع مجرى القصة، فيأتي طبيعياً، منطبقاً على الشخصية الرئيسية، لا كالشعرة في الحساء.
وأكد على وجوب تحاشي السرد ما أمكن، والتجريب كلما استطاع الكاتب إلى ذلك سبيلاً، لأن كاتب القصة هو التنفس القصصي الذي يبعث الحياة في الأشخاص، ويجعل الأسلوب منطبقاً على العقدة، فتأتي القصة أقرب ما تكون إلى المثل الأعلى الذي قاربه كبار القصاصين.
صباح محي الدين: وُلِدَ في حلب، شباط 1925، تعلّم في مدرسة النجاة ثم انتقل إلى مدرسة السريان الكاثوليك، ونال منها الشهادة الفرنسية، ودرس بعدها في مدرسة اللاييك، انتقل بعدها إلى مدرسة ترسانطة، ونال منها البكالوريا الأولى- لغة إنكليزية، ويقول أحد أقاربه تميم قاسمو، بأنه أصبح يتيماً وهو في الرابعة من عمره، يعيش مع والدته الألبانية الأصل والتي استطاعت أن تدفع أولادها إلى أرفع تحصيل علمي في ذلك الوقت، وعاش مع إخوته الثلاثة (صبيان وبنت) براتب تقاعدي بسيط.
يكتب صباح محي الدين: “لقلة الفلوس اضطررت للعمل في عدة أشغال، عند متعهد بناء، وحضرت بكالوريا فلسفة ونلتها من أوّل دورة عام 1942، ثم انقطعت عن الدراسة وعملت في أمكنة كثيرة (الأشغال العامّة، الميرة)”.
ثم عمل في بيروت عام 1946 موظفاً لدى الجمارك صباحاً، وفي المساء صحافياً في جرائد: (بيروت المساء– الجمهور والصياد)، وفي الوقت ذاته درس الأدب الفرنسي، فحصل على ليسانس الآداب عام 1949.
في شهر تشرين الثاني، وصل باريس ليحضر دكتوراه في الأدب الفرنسي، وأنجزها عن الشاعر غليوم أبوليينر، وعمل في قسم الترجمة في اليونسكو لمدّة عامين، وتزوّج في تموز 1954، وتجول في أوروبا جميعها، وفي آذار انتقل إلى العمل في لندن، للعمل في الإذاعة البريطانية B.B.C واستقال منها قبيل تأميم السويس، ثم وصل إلى الكويت ليشرف على تحرير وإخراج مجلة رسالة النفط، ومات في حادث سيارة، ثم نسي وتجوهل وكأنه لم يقدّم شيئاً ذا أهمية للأدب في سورية والوطن العربي، عن سبعة وثلاثين ربيعاً، رحل صباح محي الدين إلى أوروبا، وكانت حلب في ذاكرته، أينما حلّ، فنجدها في قصصه، وهي التي تحركه أينما سار.
“في حلب، سوق قديم يعرف باسم “سوق المدينة” وهو في الواقع مدينة قائمة بذاتها يدخلها المرء من بوابة ضخمة تقع أمام القلعة الأثرية، فيجد نفسه في شبه نفق يأتيه النور من فتحات في سقفها العالي المحدب، فيتبيّن من حوله دكاكين صغيرة ضيّقة كأنها نواويس حفرت في صخر، ولكلّ من هذه الأسواق ألوانها وروائحها وأصواتها، سوق العطارين الذي تهبّ فيه نفحات الورد والياسمين والمسك والدريرة، وسوق الحذائين تتدلى أمام دكاكينه عناقيد من الأحذية الحمر والصفر والبيض، وسوق اللحامين بزفرته الحادة وجزوره المعلقة من عراقيبها وقثار الشواء فيه، وسوق النسوان ودكاكينه ذات واجهات زجاجية مضاءة تلمح فيها الأقراط والخواتم والعقود وتزدحم أمامها النساء لهن نقنقة الدجاج عندما يزدحم على بيدر القمح.. وأسواق كثيرة كنت في صغري أحب أن أتجوّل فيها وأضيع حتى أرى نفسي أمام الجامع الكبير فأدخله وأستريح في أحد أروقته الواسعة الساكنة، وأقضي وقتاً طويلاً وأنا أتأمل الساعة القديمة فيه تعد الثواني والدقائق وتدلّ على منازل القمر ومواقع النجوم”.
عندما وصل إلى باريس شدّته إليها بسحرها، ونسائها وجمالها ونظافتها، فكان يسير في الشوارع كالمأخوذ، يقول: “ولباريس على أمثالنا من فتيان الشرق الذين حُرموا حتى من النظر إلى أنثى، أثر واحد لا يتغيّر، ما إن نصلها، حتى نحاول أن نجد لنا غرفة أقرب ما تكون من الحيّ اللاتيني ونسجل أسماءنا في الجامعة، ثم نبدأ باكتشاف مقاهي البول ميش ومونبارناس، ولا نمضي أياماً قلائل حتى يكون واحدنا قد عرف أكثر من واحدة”.
لقد ترك بلده وذهب إلى أوروبا دارساً وعاملاً، فاكتسب خبرة في الحياة وهذه ساعدته على فهم العالم، وإنتاج مشروع أدبي أقل ما يقال فيه إنه ينتمي إلى تيار الحداثة، فلم تعد القصة لديه تكتفي بالوصف الخارجي، بل تعيد تكوين وسرد الوقائع بصورة يغلب عليها التكنيك والصنعة، وأصبح فيها دور للاشعور. إنّ القصة عنده مفتوحة النهاية غالباً، وغير متفائلة عموماً، لكن السوداوية والتشاؤم هما سمتان للتحريض والتنوير، في الوقت الذي تنعكس فيه شعوراً بخيبة الأمل والإحباط. إنّه يصور الشخصيات الواقعية التي تمرّ بظروف غير واقعية، وبما أنّه يعبّر عن انسحاق الإنسان وغربته وخيبته، في عالم حرم فيه من الحبّ والحرية في وطنه، وعندما وصل إلى أوروبا وجد كلّ ذلك متاحاً فأقبل عليه، وهذا ما يصوّره فؤاد الشخصية الرئيسية في روايته “خمر الشباب”، ويتمثّل ذلك بالأب الذي يريد تزويجه بابنة عمه “درية” وعندما يخبره الأب في رسالة منه أنه خطب له ابنة عمه، يقع في حيرة، بين “مادي” الفتاة التي كوّن معها علاقة حبّ في باريس وبين “درية”، يسأل ابن عمه الذي يدرس معه، فيكون الردّ “إنّ والدك موجود في رأسك” وأخيراً يعود ليتزوج ابنة عمه، لا لأنه اقتنع بها، بل حتى لا تذهب الثروة منه، التي تملكها “درية” من أبيها، وحتى لا يذهب معمل الصابون الذي سيرثه من أبيه.
إنّها شخصيات مدروسة بعناية، فصباح محي الدين عرف الواقع الحلبي، ودرسه، وعرف الواقع الأوروبي فأقبل عليه، وشخصياته تخرج من إطارها المرسوم لها لتشكّل النهاية التعسة التي لم يردها الكاتب لقصصه.
هذه القصص إضافة إلى روايته تعبّر عن الإنسان المغترب الذي ودّع وراءه وطناً غارقاً في الجهل والتخلّف والمرارة، إلى مكان آخر يضجّ بالحيوية، إنّها حياته التي أراد أن يعيشها ويمارس طقوسه فيها، وسواء في مجموعاته القصصية أم في الرواية، فهو يقدّم لنا نفسه بكلّ ما فيها، حياته التي كانت، وحياته التي ستكون، التي عاشها في حلب والتي سيعيشها هناك في أوروبا، هنا الرقابة تبدأ من سلطة الأب والمجتمع، وهناك الحرية والانطلاق إلى مجتمع لا تحدّه حدود، يبدأ الدراسة والسهر والانفتاح على علاقات غرامية، وهنا سيعمل بطله في معمل للصابون ويعيش علاقات، أقل ما يقال فيها أنها ترزح في الجهل والتخلف، فأيهما سيختار؟.
فيصل خرتش