الصراع الدبلوماسي والعسكري على غاز شرق البحر المتوسط
ريا خوري
ما زالت الصراعات محتدمة على الغاز في حوض شرق المتوسط، بل تتأرجح بين الاتجاه الدبلوماسي والاتجاه العسكري، لكن الواقع يشير إلى أن العسكرة وفرض المصالح بالقوة العسكرية هما الأقوى، فقد وصلت حدة الصراعات بين اليونان والنظام التركي إلى ذروتها مع تطورات دبلوماسية عبر اتصال بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وأردوغان، والسكرتير العام لحلف شمال الأطلسي يانس ستولتينبرغ وسط تهديدات بعسكرة كل شيء، ليشمل دولاً أخرى من خارج شرق المتوسط، مثل فرنسا.
ومن خلال رصد التطورات المهمّة على هذا الصعيد، من المتوقع أن تشهد المنطقة في المرحلة المقبلة أحداثاً من شأنها أن تقرّر هدف ومسار الصراع في الأجل القصير. كان من المقرّر أنْ تجتمع دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية، وهي سبع دول بدعوة من فرنسا لمناقشة حدة النزاع بين النظام التركي من جهة، وبين اليونان وقبرص العضوين في الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، للبحث في شأن حقوق التنقيب. أما الاتحاد الأوروبي فإنه يدعو إلى حلّ النزاع المتفاقم عن طريق المفاوضات السلمية، مع أنه يهدّد في الوقت نفسه بفرض عقوبات على نظام أردوغان إذا لم يستجب للجلوس إلى طاولة الحوار.
من الملاحظ أن الصراع على ثروة النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط تحوّل من مجرد منافسة اقتصادية إلى تهديدات باستخدام دبلوماسية المدفع، ومن ثم التهديد بالقوة العسكرية، مع العلم أن أسعار الغاز هبطت إلى درجة كبيرة تصل إلى ما دون تكلفة الإنتاج. كما أن الشركات توقفت عن ضخ استثمارات جديدة، وتحركت المخطّطات وخارطة توزيع النفوذ بين الشركات العملاقة إلى وضع توافق وتوازن جديد تشارك فيه الولايات المتحدة الأمريكية بعد سيطرة شركة “شيفرون” على شركة “نوبل إنرجي”، وهي شركة مثقلة بالديون وغير قادرة على الاستمرار، على الرغم من أن شركة “نوبل إنرجي” تملك امتيازات كبيرة للتنقيب عن الغاز والنفط في كلّ من الأراضي الفلسطينية المجتلة ومصر وقبرص، وتعمل على نقل حقوقها إلى شركة “شيفرون”، وبذلك تصبح الخارطة الجديدة لتوزيع ثروة غاز شرق المتوسط تضمّ شركة “شيفرون”، إلى جانب كلّ من شركة “إيني” الإيطالية وشركة “روس نفط” الروسية، وشركة “شل” البريطانية- الهولندية، و”بريتش بتروليوم”، وشركة “توتال” الفرنسية، وشركة “شيفرون” الأمريكية، إضافة إلى لاعبين صغار.
لم تتوقف الولايات المتحدة عن دخول ساحة الصراع على الغاز والنفط في شرق المتوسط على الرغم من أخذ الاعتبارات السياسية والإستراتيجية والقانونية، وخاصة بعد أن أقرّ الكونغرس الأمريكي في العام الماضي قانون الشراكة في الأمن والطاقة لمنطقة شرق المتوسط، بهدف التعاون ودعم الثلاثي بين كل من اليونان وقبرص والكيان الصهيوني. هذا القانون يوفر غطاءً قانونياً وتشريعياً لحماية مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والإستراتيجية في شرق البحر الأبيض المتوسط، ويفتح الباب على مصراعيه للولايات المتحدة للعب دور أكبر في مجال الصراع على الغاز، وهو ما يتناقض تماماً مع سياسة تخفيف وجودها العسكري في المنطقة.
لقد اتجه اللاعبون الأساسيون في الصراع على غاز شرق البحر الأبيض المتوسط إلى إنشاء قاعدة للحوار والتشاور، إضافة إلى إقامة محاور تتجاوز الخلافات الثنائية، مما يجعل قضايا أي نزاع ذات طابع معقد ومتعدّد الأطراف، حيث يجري الصراع حالياً بين محور يوناني- قبرصي- مصري يدعمه الكيان الصهيوني بشكل غير مباشر من جهة، ومحور يضم النظام التركي وحكومة طرابلس الليبية من جهة ثانية. وموضوع الصراع المحتدم بين المحورين هو نقاط وخطوط ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة لدول حوض شرق البحر الأبيض المتوسط، مع العلم أن الترسيم محكوم بقواعد التشريع والقانون الدولي للبحار.
من هنا نجد أن دول شرق البحر الأبيض المتوسط لم تشتق من ذلك القانون إطاراً إقليمياً، يمثّل توافقاً مشتركاً بينهما بشأن قواعد وأسس الترسيم، وخاصة في المناطق البحرية التي فيها جزر وكتل يابسة داخل البحر مثل جزر رودوس وقبرص وكريت، لأن مكامن الثروة تقع في قاع البحار، لذلك لا تعترف بقواعد ترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة. ويمكن أن يمتد حقل واحد للغاز داخل منطقتين أو أكثر من دولة، لذلك فإن أسلوب النقاش وليس الإجراءات العدائية هو السبيل لحلّ النزاعات بين الدول الغربية المتحضرة. وعلى الرغم من أن اليونان وانظام التركي يعلنان التزامهما بالقانون الدولي وبأسلوب الحوار الهادئ، إلا أن الواقع العملي لا يتطابق بتاتاً مع الأقوال، وهو ما دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والسكرتير العام لحلف شمال الأطلسي يانس ستولتينبرغ إلى التدخل لدى أردوغان لنزع فتيل أزمة عسكرية حادة كادت تؤدي إلى اشتباكات بالأسلحة الجوية والبحرية.
ومع احتمال تكرار الاستفزازات العسكرية في منطقة واسعة من دول شرق المتوسط خلال الفترة المقبلة، فإن قادة دول الاتحاد الأوروبي يجدون أنفسهم في عمق الأزمة وجهاً لوجه أمام تحدي إيجاد طريقة طويلة الأمد لنزع فتيل تلك الأزمة الحادة في شرق البحر الأبيض المتوسط، ومن الضروري جداً أن تلعب قوة دولية وذات مصداقية عالية دور الوسيط بين النظام التركي واليونان، وخاصةً إذا فشلت المبادرة الحالية لسكرتير عام حلف الأطلسي.
في الحقيقة، تبقى خريطة توزيع ثروات شرق البحر الأبيض المتوسط محكومة بحيّزها الجغرافي، ولن يتمّ تحقيق الاستثمار الأمثل لهذه الثروات والموارد دون اتفاق جماعي، يضع القواعد والأسس للترسيم المشتقة من القانون الدولي والمتوافقة مع المعطيات الإقليمية، إضافة إلى الحاجة إلى اتفاقيات ثنائية بين الدول التي تجاور حدودها البحرية، لكن عملية بيع الإنتاج وتصريفه في الأسواق العالمية تتجاوز حدود تلك الخارطة، وتمتد إلى النواقص أو المزايا الإيجابية الجيوسياسية والتجارية لدول حوض شرق المتوسط، إضافة إلى مستوى ونطاق التعاون الإقليمي في مواضيع مثل النقل والتمويل والمعالجة.. وغيرها.
إن إنتاج غاز شرق البحر المتوسط يرتبط بإستراتيجية الطاقة الأوروبية، لذلك فإن السوق الحقيقية لغاز شرق البحر المتوسط هي الدول الأوروبية التي تعتمد على واردات الغاز والنفط من روسيا وليبيا والجزائر والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، إضافةً إلى الغاز الأوروبي المستخرج في النرويج، وكذلك الغاز والنفط الذي يتركز في الجوف القاري وبحر الشمال للنرويج، لهذا ترغب دول الاتحاد الأوروبي أن يسهم غاز شرق البحر الأبيض المتوسط في تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا ودول “الأوبك”.
من هذه الرؤية لمستقبل غاز شرق البحر الأبيض المتوسط في إستراتيجية الطاقة الأوروبية، تعمل دول الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة الأمريكية دون كلل أو ملل على مدّ خط أنابيب لنقل الغاز من الحقول القبرصية وحقول الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا، حيث يتمّ ربط إمدادات الغاز من شرق البحر الأبيض المتوسط بشبكة خطوط واسعة ومتعدّدة من خطوط أنابيب الغاز الطبيعي الأوروبية.