مجلة البعث الأسبوعية

جوليان أسانج.. فانتازيا الديمقراطية

“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف

تريد الدولة العميقة في الولايات المتحدة صلب جوليان أسانج بسبب ما تصفه بـ “الجريمة” التي لا تغتفر، ولكن ما هي هذه الجريمة؟ إنها باختصار فضح ممارسات الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان عبر الصحافة الاستقصائية التي يسلكها أسانج لقول الحقيقة بالطريقة التي ينبغي أن تكون ضرورية للجميع لمعرفة القضايا الجيوسياسية.

ومنذ اعتقاله بالقوة من سفارة الإكوادور في لندن، في نيسان 2019، كان واضحاً أنه سيتم فرض عقوبة محظورة دستورياً بحق أسانج، إلى جانب قتله ببطء من خلال الإهمال وسوء المعاملة. وقد استؤنفت إجراءات المحاكمة الصورية، برئاسة القاضية فانيسا باريتسر، بعد أن كلفتها السلطات البريطانية بمهمة ضمان تسليم أسانج إلى الولايات المتحدة لإجراءات محاكمة “الكنغر”، المؤامرة الأمريكية – البريطانية التي تسهتدف ضمان عدم إطلاق سراحه مطلقاً، وحرمانه من الإجراءات القانونية الضرورية لحمايته بموجب القانون، حتى أن القاضية باريتسر رفضت طلب الإفراج عنه بكفالة طارئة بسبب تفشي فيروس كورونا في بريطانيا.

 

فانتازيا الديمقراطية الأمريكية

في أواخر حزيران الماضي، قال بيان صادر عن وزارة العدل الأمريكية أن هيئة محلفين فيدرالية أعادت تنظيم لائحة اتهام ثانية بحق جوليان أسانج”. والملفت أن اللائحة الجديدة لا تضيف أي جديد إلى تلك السابقة المكونة من 18 تهمة، ما يعني أنها توسيع لنطاق المؤامرة على أسانج. ووفقاً لرئيسة تحرير ويكيليكس، كريستين هرافنسون، فقد كان أمام ترامب 10 سنوات لتقديم قضيته ضد أسانج، وأن لائحة الاتهام الجديدة، في اللحظة الأخيرة، هذه، هي بمثابة إهانة مطلقة لمحاكم المملكة المتحدة وجوليان وللعدالة.

وفي شهادة عبر الفيديو، أوضح أستاذ الصحافة مارك فيلدشتاين أنه لم يسبق أن تمت محاكمة صحفي أو ناشر بسبب ما هو مسموح به دستورياً، وإن اتهامه بشكل غير مبرر بموجب قانون التجسس الذي عفا عليه الزمن، ويعود إلى العام 1917، وهو من بقايا الحرب العالمية الأولى المتعلقة بالحرب وحدها، إلى جانب اتهام زائف بارتكاب جرائم الكمبيوتر، يضاعف من سخرية العدالة ضده.

وقد سمحت القاضية باريستر لتسعة أفراد فقط من الجمهور بالمثول أمام المحكمة، بحجة وباء كوفيد-19، وتم حجز خمسة مقاعد لعائلة وأصدقاء أسانج، وأربعة فقط لعامة الناس، وحصلت المنظمات غير الحكومية والمدافعون عن حرية الصحافة ونواب الاتحاد الأوروبي على إذن وصول عن بعد بحجة غير مقبولة، وهي حماية “نزاهة المحكمة” من خلال جعل ما يجري داخل مبنى “أولد بيلي” في لندن سرياً قدر الإمكان. ورداً على ذلك، قام إدوارد سنودن بتغريد ما يلي: تسليم جوليان أسانج هو محاكمة خبيثة بكل المقاييس. “الجريمة” المتهم بها جوليان هي أعظم خدمة عامة قام بها ويكيليكس على الإطلاق، وهي فضح الانتهاكات الأمريكية في أفغانستان والعراق.

حتى الآن، يبدو أن مطالبة الإدارة الأمريكية بمقاضاة أسانج وإدانته وسجنه على المدى الطويل لا تتعلق به شخصياً، بل هي رسالة للآخرين الذين قد يسيرون على خطاه، وتوضح هذه المحاكمة أن مصيراً مشابهاً ينتظر أي شخص يفضح الجرائم الأمريكية الكبرى التي يريدون إخفاءها. إنها باختصار الطريقة التي يعمل بها ظلم الدولة البوليسية في فانتازيا الديمقراطية الأمريكية.

في قضية صحيفة “نيويورك تايمز” ضد الولايات المتحدة (30 حزيران 1971)، قضت الأغلبية في المحكمة العليا الأمريكية بأنه مسموح لصحيفتي التايمز وواشنطن بوست قانوناً بنشر ما يعرف باسم أوراق البنتاغون. اتفق قضاة المحكمة العليا مع نظرائهم في المقاطعات ومحاكم الاستئناف على أن الكونغرس لن يصدر أي قانون يحد من حرية التعبير أو حرية الصحافة. وبموجب الحقوق، يجوز للمنشورات أو الجماعات أو الأفراد قانوناً نشر معلومات صادقة للصالح العام بغض النظر عن كيفية الحصول عليها.

 

أسانج وبروميثيوس باوند

شبه الكثيرون قصة أسانج بقصة بروميثيوس، وهي حكاية مأساة يونانية قديمة. تقول القصة أنه وسط صمت مدو ولامبالاة عالمية تقريباً، تم إحالة بروميثيوس إلى محاكمة صورية في محكمة مزيفة بنيت. قام كراتوس، منتحلاً صفة القوة، وبيا منتحلاً صفة العنف، بتقييد بروميثيوس ووضعه في الحبس الانفرادي في سجن شديد الحراسة، خاضعاً لتعذيب نفسي لا هوادة فيه. يعاقب بروميثيوس ليس لسرقة النار، ولكن لفضح السلطة، وبالتالي استفزاز الغضب اللامحدود للإله زيوس الذي يمكنه فقط تنظيم جرائمه بسرية مطلقة. هذه الطقوس هي نفسها التي تجري خلال المحاكمة الصورية الحالية لأسانج والتي لا علاقة لها بالعدالة أبداً.

يقول كلايف ستافورد سميث، أحد المدافعين عن أسانج، وهو محام بريطاني – أمريكي مزدوج الجنسية، ومرخص له بالممارسة في المملكة المتحدة، ومؤسس منظمة ريبريف لمعارضة عقوبة الإعدام، إن نشر موقع ويكيليكس للبرقيات كان ذا فائدة كبيرة للتقاضي في باكستان ضد ضربات الطائرات بدون طيار غير القانونية، وإن أحد دوافعه للعمل على هذه القضايا هو أن حملة الطائرات بدون طيار الأمريكية بدت وكأنه أسيئت إدارتها وأدت إلى تقديم مخبرين مدفوعي الأجر لمعلومات خاطئة عن أشخاص أبرياء قتلوا بعد ذلك في غارات.

وحتى الوثيقة التي تم الاستخفاف بها، والتي نشرتها ويكيليكس كانت JPEL، أو قائمة الأولوية المشتركة للجيش الأمريكي في أفغانستان، وهي في جزء كبير منها قائمة بأهداف الاغتيال، وهي – بحسب ستافورد سميث – تنم عن تجاهل صارخ للشرعية وموقف صبياني من القتل.

تحدث ستافورد سميث عن غوانتانامو، وظهور أدلة على أن العديد من المعتقلين هناك ليسوا إرهابيين، ولكن تم اعتقالهم في أفغانستان من قبل نظام يعتمد على دفع المكافآت. لم تكن ملخصات تقييم المحتجزين التي نشرتها ويكيليكس معلومات مستقلة، لكنها ملفات داخلية للحكومة الأمريكية. داخل غوانتانامو، تحولت مجموعة أساسية من ستة معتقلين إلى مخبرين لتقديم مزاعم كاذبة ضد معتقلين آخرين. قال ستافورد سميث: كان من الصعب إلقاء اللوم عليهم، كانوا يحاولون الخروج من هذا الجحيم مثل أي شخص آخر.

لاحقاً، كشفت الحكومة الأمريكية عن هويات هؤلاء الستة، وأطلقت سراح “المقاتلين الأعداء ذوي الخطورة العالية” من سجنها العسكري في خليج غوانتانامو، والذين ظهروا مرة أخرى لاحقاً في ساحات القتال في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، احتجز سجناء غوانتانامو الذين ثبت أنهم غير مؤذيين لسنوات عديدة.

 

مارك فيلدشتاين

يشغل البروفيسور فيلدشتاين منصب رئيس قسم الصحافة الإذاعية في جامعة ميريلاند، ولديه عشرون عاماً من الخبرة كصحفي استقصائي. صرح فيلدشتاين أن تسريب المعلومات السرية يحدث مع التخلي عنها في الولايات المتحدة، حيث قدرت إحدى الدراسات الأكاديمية مثل هذه التسريبات بـ “الآلاف والآلاف”. كان هناك صحفيون متخصصون في الأمن القومي وحصلوا على جوائز بوليتزر لتلقيهم مثل هذه التسريبات في الشؤون العسكرية والدفاعية.

يقول فيلدشتاين: إن “الدستور يحمي الصحافة، ليس لأن الصحفيين يتمتعون بامتيازات، ولكن لأن للجمهور الحق في معرفة ما يجري. وتاريخياً، لم تحاكم الحكومة مطلقاً ناشراً لنشره أسراراً مسربة”.

والحقيقة حول غزو العراق أن المسؤولين الأمريكيين جمعوا أدلة مفصلة وشائنة في كثير من الأحيان عن مقتل ما يقرب من 100 ألف مدني بعد الغزو، على عكس المزاعم العلنية لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش، والتي قللت من شأن الوفيات، وأصرت على عدم الاحتفاظ بهذه الإحصائيات. كانت القوات الأمريكية في العراق تغض الطرف عندما تقوم الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة هناك بمعاملة المعتقلين بوحشية، وتعرضهم للضرب والجلد والحرق والصدمات الكهربائية.

في أفغانستان، نشرت الولايات المتحدة وحدة “سوداء” سرية من القوات الخاصة لمطاردة قادة طالبان “ذوي القيمة العالية” من أجل “القتل أو “الأسر” دون محاكمة. وسعت الحكومة الأمريكية لجمع المعلومات الاستخبارية السرية من قبل دبلوماسييها في الأمم المتحدة وفي الخارج، وأمرت المبعوثين بجمع أرقام بطاقات ائتمان الشخصيات الأجنبية البارزة.

من كل ما تقدم، لا يمكن التقليل من أهمية وقيمة إفصاحات ويكيليكس حول العراق وأفغانستان، وهي ذات أهمية رئيسية لإثبات جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ما يعني بالتالي أنه إذا تم تسليم أسانج إلى الولايات المتحدة وإدانته وسجنه، فإن حكم القانون سينقلب رأساً على عقب.