الروتين “المصطنع” ينهك المواطن والمؤسسات تدار بعقلية “البزنس”!
يشكّل الروتين الممارس بكثرة في مؤسّسات القطاع العام أحد أهم أسباب غياب الثقة بالعمل المؤسساتي، حيث يواجه المواطن الكثير من العراقيل والتحديات عند إجراء أية معاملة مهما كانت بسيطة، نظراً للروتين المتّبع تحت عنوان تطبيق القوانين المطاطية التي تخدم المصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة، والمسألة سهلة جداً مع وجود الموظف “الفهلوي” القادر على استثمار وظيفته بما يمكّنه من اقتناص جيوب المواطن من خلال استغلاله للروتين واستبعاده للإجراءات التي وضعت لمساعدة الناس والضامنة لحقوقهم، وتمسكه بمسائل قانونية قديمة يمكن تخطيها بسهولة وتحقيق المصلحة العامة والخاصة من خلالها، وخاصة في ظل الوضع الحالي الذي لا يحتمل التأخير، أو فوات المنفعة لأسباب يمكن دراستها وتلافيها.
تؤدي للخسارة والاحتكار
إن صعوبة ضبط الليرة أدّى لتقييد عملية التعاقد مع القطاع العام بشكل كبير بسبب صعوبة التعاملات البنكية، وإصدار الكفالات الأولية والنهائية، وصعوبة سحب قيمة أمر الصرف من البنوك، ما يجعل الكثير من التّجار يحجمون عن التقدم للمناقصات العامة، وعروض الأسعار، وفقاً لما أكده لنا الصناعي عاطف طيفور. وبذلك انخفضت المنافسة في المناقصات، وأصبحت لأسماء محدودة فقط ترفع الأسعار بشكل ضخم بسبب نسبة المخاطر التي قد يتعرّض لها السعر، وهذا ينعكس بخسائر فادحة على القطاع العام. ويرى طيفور أن الحلّ يكمن بتقديم تسهيلات للتاجر من خلال تمكينه من صرف قيمة العقد من البنوك بشكل خاص فور أمر الصرف، وتمديد فترة إغلاق المناقصة حسب قانون العقود لفترات طويلة لا تقلّ عن ٤٥ – ٦٠ يوماً، ومنح تسهيلات في إصدار الكفالات الأولية والنهائية بشكل سريع بعيداً عن أية تعقيدات، والأهم من ذلك الالتزام بقانون العقود وتعديلاته، وخاصة ما يتعلق بعدم إرساء أي عقد وحيد إلا بعد الإعلان للمرة الثانية والثالثة كحدّ أدنى، ورفع سقف المشتريات المباشرة كون ذلك يخفض من قيمة العقد بسبب انخفاض التكاليف، والضرائب، والرسوم، والأجور، والرواتب، ومصاريف الكفالات التي تحمّل على المناقصات من أجل عقود صغيرة تماشياً مع الوضع الاقتصادي الحالي. كما طالب طيفور برقابة مشدّدة على تصديق العقود من جميع الجهات المعنية ابتداء من لجنة فضّ العروض، وصولاً للجنة الاقتصادية والرقابية للحدّ من التجاوزات في الأسعار، وخاصة في العقود التي تنعكس على تقديم خدمات مأجورة للمواطن، والمتعلقة بالأسعار التموينية للمواد الأساسية حيث ستكون الخسارة على عاتق الجهات العامة، والمواطن على حدّ سواء.
التمسك بحرفية القواعد
الدكتور أحمد ديب أحمد، كلية الاقتصاد – جامعة تشرين، أوضح أن جميع المؤسسات الحكومية ودون استثناء تعاني من البيروقراطية، ونلمس المغالاة في التمسّك بحرفية القواعد القانونية، وشكليتها على حساب المضمون، وتحوّلت هذه القواعد الجامدة في مؤسساتنا الحكومية إلى العرقلة بدلاً من أن تضمن التنظيم والدقة في العمل، بسبب ما تتصف به من البطء في تنفيذ المعاملات، والجمود في تطبيق القواعد، وما يتبعه من استغلالها لتحقيق المصالح الشخصية لفرد، أو عدة أفراد، والمشكلة ليست في البيروقراطية بل في تطبيقها في مؤسساتنا، لأن وظيفة البيروقراطي -نظرياً- تنفيذ سياسة الحكومة عن طريق وضع القوانين موضع التنفيذ، لكن ما يحدث على أرض الواقع هو استغلال هذه السلطة لخدمة المصلحة الشخصية. ويرى أحمد أننا نعاني الآن مما سمّاه الفساد الروتيني، فالروتين أسلوب يحكم عمل الجهاز الإداري مما يؤدي به إلى الجمود، أما الفساد فهو سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة، أي أن الموظف الفاسد خرج عن القانون، والنظام، ويستغل غياب المحاسبة لتحقيق مصالحه، والفساد الروتيني يعني أن من أراد إنجاز معاملاته بسرعة عليه دفع رشوة للتخلّص من بطء سير المعاملة، فالمشكلة ليست في روتين تسلسل سير المعاملة لأن ذلك مفروض بحكم القوانين، لكن الموضوع يتعلق بمدة مكوث المعاملة في كل مرحلة، ولهذا أسباب عديدة منها الضبابية التي تحيط بالقوانين، مما يسمح للموظف الفاسد بالتلاعب مع المتعامل الذي يجهل هذه القوانين، وغياب الرقابة، وانخفاض الرواتب مما يؤدي لانتشار الفساد، والرشوة، كما أن هذا التأخر في المعاملات له انعكاس سلبي على المواطن، حيث يؤدي في بعض المعاملات إلى انتهاء المدة المتاحة لها، فيخسر المتعاقد الفرصة المتاحة له، أو يُكَلَّف بتكاليف إضافية قد تكون من خلال إعادة إجرائها من جديد، أو دفعه رشاوى ريثما تنجز المعاملة، مما يحبط النشاط التعاوني للمتعاقدين مع المؤسسات والجهات العامة من جهة أخرى، مما يؤدي إلى خسارة المتعاقد، والإضرار بمؤسسات الدولة على حدّ سواء. ويرى أحمد في سياق الحل أنه لابد من التواصل بين المدراء وموظفيهم لعرض المشكلات والعمل على حلّها بشكل مرن وسريع، إضافة إلى تسخير التقنيات الحديثة لمتطلبات العملية الإدارية كالحكومة الإلكترونية، والتراسل عبر البريد الإلكتروني لتسهيل المعاملات، وتأمين الموافقات بالسرعة القصوى، كما أنه يجب إعطاء هوامش من المرونة في العمل للموظفين بشكل لا يتعارض مع تحقيق المصلحتين العامة والخاصة على حدّ سواء، ودون الإخلال بمبدأ العدالة في التعامل بحيث لا تمرّر معاملات على حساب معاملات أخرى. ومن أجل تحقيق هذا الأمر اقترح أحمد إقرار شرائح للمراجعين، فمعاملة ما قد تأخذ شهراً بشكل طبيعي، أو أسبوعاً بشكل سريع، أو يوماً بشكل استثنائي، يمكن أن تُحدّد لكل شريحة منها رسوماً معينة تذهب لخزينة الدولة وفق مبلغ مقبول ومدروس بدلاً من أن تذهب لجيب الموظف كرشوة، وفي الوقت نفسه يشعر المتعاقد بالعدالة، كما أنه لابد من العمل على تدريب العاملين وتطوير إمكانياتهم بما يتناسب مع التطو والاحتياجات المجتمعية، ومراقبة سلوك الموظفين وتقويمه تعليمياً وتدريبياً.
أيضاً المشترك يعاني
لابد من تحقيق التعاون بين القطاعين الخاص والعام، وإقامة المشاريع التنموية المشتركة، فالقطاع المشترك هو أحد أذرع الاقتصاد الوطني، وكما هو واضح هناك العديد من التشريعات والقوانين لإقامة مشروعات تنموية وفق صيغ تعاون مشتركة بين القطاعين، ولكن المشكلة لا تكمن بصدور تشريع إضافي، وإنما بتوضيح القائم من هذه التشريعات، وتسهيل الإجراءات، وخلق البيئة التحفيزية الملائمة لإشراك وجذب القطاع الخاص، فالعلاقة بين القطاعين العام والخاص بالمجمل ليست سليمة، وفقاً لما أكده الباحث الاقتصادي الدكتور نضال طالب، وذلك مردّه لعدة أسباب أهمها التعقيدات التي تشوب قوانين المناقصات والمزايدات، والقوانين المالية الأخرى وما تتضمنه من مراحل روتينية لا تتواءم مع المرحلة التي يعيشها الاقتصاد الوطني، وخصوصاً لجهة تقلبات أسعار الصرف، وعدم قدرة القطاع الخاص على تحمّل عبء زمني، أو مماطلة في تعهده لتنفيذ أية مشاريع حكومية، إضافة إلى ضبابية وقصور، وتعقيدات القانون رقم 5/لعام 2016 الخاص بالتشاركية بين القطاعين العام والخاص، لما يحتويه من غموض، وزيادة في الروتين، وكثرة المنبثقة عنه، والمهل الزمنية المتعدّدة لإنجاز المراحل العديدة لمشاريع التشاركية. وقدّر باحثون مدة التحضير والإعلان عن المشروعات، وطرحها على أساس تشاركي بما لا يقلّ عن عام ونصف، كما أن إقحام المشاريع الإنتاجيـة الربحية ضمن قانون التشاركية غير مبـرر، فالحكومة صاحبة المشروع والمستثمر يهدفان إلى تحقيق الربحية، وبالتالي يمكن لهذه الشراكة أن تخضع لقوانين التجارة والشركات، إضافة لتأخر صدور قانون استثمار جديد محفز يقدّم تسهيلات مدروسة لجذب رؤوس الأموال لتنفيذ مرحلة إعادة الإعمار، والافتقار لوجود كوادر متخصّصة تسعى إلى تحقيق الشراكة مما يستدعي إصلاح وتطوير الهيكل التخطيطي والمؤسساتي، وضعف الوعي العام والخاص والشعبي بأهمية ومزايا ومحاذير مشاريع التشاركية على التنمية.
بشار محي الدين المحمد