النقد ونقص “الدوبامين”
هناك استدلال يقول إنّ معيار الحقيقة هو بالممارسة الفعّالة بغضّ النظر عن متغيراتها في دائرة الشخوص والأماكن. وهنا، نستطيع الحديث عن المعايير وحقيقتها.
وفي الأدب عموماً، قد تتشابه الأثواب الشكلية من شخوص في إطار الصياغة الفكرية ومساحات الابتكار، ولكن تبقى مسألة العزف المنفرد داخل أسوار العمل الفكري حالة خاصة مزحومة بذاتية الفنان (الكاتب) ورؤيته الخاصة. أما إذا وقع الحافر على الحافر في المحدّدات الشكلية، فلا أعتقد أن المحدّدات الفكرية قد تتطابق، وإنْ حصل الأمر، فهي اشتقاقات تتقاطع فيها الرؤى في وحدة وصفية ورموز متاحة للجميع.
في المناخ الثقافي الملبّد بغيوم العريّ المستبد، يسعى كل شخص إلى اختيار مفردات حضوره وتخصيب حيّز حياته في رحلة استعادة الذات وامتحانها على إيقاعٍ يفسّر جلاء الصورة المشتهاة.
والمبتدأ هنا، هو جملة محاولات تصحيحية في وجه الزخم التشويهي بكل عناوين صخبه وعباءة مفرداته المرمية ضمن أسوارٍ مسعورة اللحظات. أما الخبر، فهو خلخلة الحق ببراثن خصومةٍ لفحتها وجوههم الصفراء وراحت تبلور مفاهيمَ ورواسب قد اكتنزت بأصفادٍ شديدة الانحدار.
وفي حديث التجديد النقدي من امتلاك الملاءة المعرفية إلى أقصى درجات الاستبصار، يأتي من يقف على حافة التوهم (غير المجدي أو المفضي إلى حقيقة معنى)، معللاً وجود خفوت البريق في روح النص إلى الهذيان والهلوسة الموسومة بالهراء!.
تتعالى أصوات النقد والأعراض المرافقة له.. مع نقص حاد في (الدوبامين) ليؤثر سلباً على الذاكرة بأقبح صورة جحود.. والمنجل أعلن شبقه في نقص الوعي الذاتي الذي لا يعير اهتماماً بأي احتمال حصاد. لا تكن شيئاً.. فأنا ضدي وضدك وضد (نبيذ الرماد)، مغلول ومرهون بمرايا الكوابيس التي صارت رهينة المصطلحات الممجوجة العاقرة.
فمن أبراج العدم ودروب الرحلة الأخيرة إلى السواد في حدّه الأعظمي.. لم يرَ الناقد المكبّل بالدال والنقطة أفق الحب الأعلى في أبهى حضور ويقين لمن هيأ (كأساً ليشرب نخب هبوبه.. على أفق لا يحدّ طموح حياته). ولم يدرك الناقد أنّ أميراً (امتلك سهماً وقوساً سماوياً لصيد براءة جوعه ببادية الخصب).
ولم يعكس بعض النقاد هنا جوانب القول المتين المبنيّ على رفع القيمة للقول الإبداعي في النص المومى إليه إلا ما ندر.. وكأننا أمام حالة ذهانية تستند إلى الأوهام في سرد الحجج، (ونادراً ما نجدُ ذلك المتلقي الذي يتعامل مع تمام وكلية ووحدة عوالم القصيدة لعدم تمكنه من تقمص تلك الحالات النفسية التي امتلكها شاعرها وحده أثناء إعلانه لحضورها العضوي كقصيدة نهائية وكاملة).
وهنا، أستنهض صداي المعتّق من نور اللحظة المواتية لكل بوح صريح.. وأستحضر مارك توين بقصصه المتوهجة بالحكمة.. فقد كان مغرماً بالراحة، حتى إنه كان يمارس الكتابة والقراءة معاً وهو نائم في سريره، ونادراً ما كان يخرج من غرفة نومه. وذات يوم جاء أحد الصحفيين ليقابله، وعندما أخبرته زوجته بذلك، قال لها: دعيه يدخل. غير أنّ الزوجة اعترضت قائلة: هذا لا يليق، هل ستدعه يقف بينما أنت نائم في الفراش؟. فأجابها: عندك حق، هذا لا يليق، اطلبي من الخادمة أنْ تجهّز له فراشاً آخر!
رائد خليل