الكوارث المناخية والخطر القادم
إبراهيم أحمد
“العالم يعيش فوق النار” هي مجرد مقدمة لسيناريو مناخي كارثي أصبح “هائجاً بشكل جنوني” ويكاد من المؤكد أن يجرد الحضارة في نهاية المطاف، من جميع المظاهر في وقت أقرب، لكن العلماء لا يعبرون عن هذه التوقعات بصراحة. والمعروف أن الحرائق البرية الضخمة غير المنضبطة وغير المسبوقة تستهلك أجزاء من غابات الأمازون المطيرة والعديد من مناطق القطب الشمالي. وهنا يجب أن نسأل أنفسنا لماذا يتحول اثنان من أكبر الأنظمة البيئية إلى دخان؟.
الحديث عن الحرائق الضخمة وهي تقع على بعد آلاف الأميال في المناطق البرية الشاسعة ربما لا يحرك الأمور بما يكفي لتعبير الناس عن قلقهم الشديد أو حتى الوصول إلى حد الذعر. فهذه الحرائق ليست ناتجة عن مصانع عادية، بل هي عواصف نارية قوية جداً تولد أنظمة ريحية خاصة لتديم نفسها. لم تكن حرائق الغابات الأخيرة في أستراليا 2019 غير مسبوقة فقط، بل كانت “كارثية مميتة”، وبالتالي تركت بعض النظم البيئية “لتتغير إلى الأبد”.
اليوم، وعلى غرار حرائق أستراليا قبل عام، تعاني المزيد من الموارد الطبيعية الثمينة موجات من المحو التام. ستة أشهر من درجات الحرارة القياسية تسببت بحرائق هائلة في القطب الشمالي السيبيري هذا العام. لقد كانت الأعمدة الضخمة من الدخان مرئية بواسطة الأقمار الصناعية وزادت الحرارة /5/ درجات مئوية فوق المتوسط في معظم أنحاء سيبيريا. وخلصت دراسة دولية صادرة عن مكتب الأرصاد الجوية إلى أن هذه الفترة من الطقس الاستثنائي كانت مستحيلة لو لم يسخن العالم بفعل الإنسان وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
البروفيسور بيتر ستوت من قيادة مكتب الأرصاد الجوية يقول: “ما نراه حقاً غير مسبوق”. أما الدكتورة كاثرين هندري فتقول: “بالنظر إلى السجل الجيولوجي، لا نعتقد أننا رأينا مستويات لثاني أكسيد الكربون بهذا الارتفاع خلال 5 ملايين سنة”. أما المعهد الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء أبلغ عن 6803 حرائق في الأمازون في تموز 2020 وحده، أي بزيادة قدرها 30% عن شهر تموز 2019. ولقد استاء العالم الغربي جداً بسبب فقدان الغابات المطيرة جراء الحرائق الناجمة عن الإنسان علماً بأن الحرائق في الحقيقة ليست سمة عادية للغابات المطيرة.
ووفقاً لبيانات المركز الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء، فإن الأشهر الستة الأولى من عام 2020 هي بالفعل الأسوأ على الإطلاق في مجال إزالة الغابات. لقد حدث تغير المناخ بسرعة قصوى في جميع أنحاء الغابات المطيرة الرائعة مع توفر ظروف الجفاف المدمرة التي تظهر جزئياً، جراء عمل المحركات ومحطات توليد الكهرباء التي تعمل كلها بالفحم الساخن وبالوقود الأحفوري، لينبعث منها ثاني أكسيد الكربون، الذي يعتبر من الغازات الدفيئة التي تغطي الغلاف الجوي، التي تزيد بدورها من موجات الجفاف الشديدة المدمرة. ووفقاً لتحليل متعمق لغابات الأمازون المطيرة تشير العديد من الدراسات إلى أن المنطقة تعاني الجفاف الشديد منذ نهاية القرن الماضي، كما في 1997/1998 و2005 و2010 و2015. ولوحظ أن فترات الجفاف هي حلقة تتكرر تقريباً كل خمس سنوات مع زيادة كبيرة في منطقة التغطية. وهذا أمر ليس طبيعياً، ما يعني أن شيئاً ما خاطئ يحدث بشكل فظيع في مكان ما. ووفقاً لوكالة ناسا، فإن درجات الحرارة الأكثر دفئاً لسطح المحيط في شمال المحيط الأطلسي تخلق ظروفاً لحدوث مزيد من الجفاف الشديد في منطقة الأمازون، حيث تؤدي حرارة المحيط الزائدة إلى أضرار بعيدة المدى. وفي الوقت نفسه، فإن الأزمات المتعلقة بالمناخ على نطاق واسع والتي لم يتم تسجيلها من قبل على مدار تاريخ البشرية تستمر في التطور نحو التصعيد، بشكل جدي، مباشرة أمام “أعين المجتمع المغلقة”.
تعد التحديات والتغيرات والظواهر المناخية من القضايا التي أثّرت بشكل واضح وعميق في استقرار السياسة العالمية والعلاقات الدولية، وسيستمر ذلك التأثير في القرن الراهن بشكل أكبر وأوسع مما سبق، وذلك عبر ما تخلفه وتتركه على الساحة العالمية من تداعيات خطيرة أو تتشارك به مع عوامل أخرى في إحداث تلك الآثار والنتائج التي يقع على رأسها ارتفاع نسبة النزاعات والحروب المسلحة على الموارد، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتوتر العلاقات الدبلوماسية بين الوحدات السياسية الدولية. فالتحديات المناخية مثلها مثل التحديات الصحية كالأمراض والأوبئة المعدية لا تمايز بين دول كبرى وأخرى صغرى، أو بين لون أو جنس أو دين أو مكانة اجتماعية، كما أنها لا تفرق في أضرارها بين ما هو من البشر وبقية المخلوقات، أضف إلى ذلك أن نتائجها غير المباشرة وفي كثير من الأوقات تتسبب بما هو أخطر بكثير من نتائجها المباشرة، كما هو حال التعرض للزلازل وموجات تسونامي أو انفجار البراكين على سبيل المثال أو الاحتباس الحراري، حيث الآثار الاقتصادية الوخيمة وانتشار الكوارث الصحية الأخرى كالأمراض نتيجة تراكم الجثث تحت الأنقاض لفترات طويلة، أو نقص المياه والطعام أو حتى بإحداث خلل جسيم في النظام البيئي نفسه، حيث تتسبب هي الأخرى بكوارث مناخية أخطر.
يضاف إلى ذلك ما يتبع تلك التحديات والظواهر من استنزاف للطاقات البشرية والموازنات المالية للدول والتأثير في النظم الاجتماعية والاقتصادية. فعلى سبيل المثال، يستدعي التغير المناخي الناتج عن الارتفاع الهائل في حجم الانبعاثات الدافئة إلى حشد الطاقات البشرية والخبرات الدولية لمواجهة الآثار السلبية الناتجة عنه والمتمثلة في ارتفاع درجة الحرارة والنقص الحاد في مصادر المياه العذبة وتراجع المحاصيل الزراعية وانتشار ظاهرة التصحر وتراجع خصوبة التربة وارتفاع مستوى سطح البحر، فضلاً عن تآكل الشواطئ وارتفاع حجم الكوارث البيئية من فيضانات وعواصف وغيرها من الظواهر.
إذاً، أصبحت قضايا البيئة والتغيرات المناخية تأخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام الدولي والعالمي في الوقت الراهن، لدرجة أنه لم يعد من المقبول – في كثير من الأوقات- أن تناقش قضايا العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية والأمنية دون الأخذ في الاعتبار مسائل تتعلق بالبيئة والتغيرات المناخية الحالية والمستقبلية وتأثيرها على بني البشر ومستقبلهم، حتى ربما يمكننا القول: إن التحديات التي تفرضها قضايا البيئة في العقود القادمة سوف تكون بمثابة عوامل محددة لكيفية تطوّر وإدارة العلاقات السياسية بين الدول. وقد تنبأ البروفيسور والباحث الأميركي لورنس سميث في نظريته حول القرن القادم بأن “التغيرات المناخية سوف تحدث آثاراً ودماراً هائلاً على كوكب الأرض، وسوف تفرز نتائج كارثية وتزداد المتاعب من الفيضانات والزلازل والفقر والهجرة والنزاعات والصراعات حول الموارد والمياه والغذاء”.
على ضوء ذلك، فإن ناقوس الإنذار يجب أن يُقرع لمختلف الجهات والمؤسسات المعنية بإدارة الكوارث الطبيعية في العالم إلى العمل على الاستعداد لمثل هذه الكوارث المناخية والبيئية المستقبلية العالمية، وأن يتم البدء بأسرع وقت ممكن في إعداد سيناريوهات لإدارة الأزمات والكوارث المختلفة، دون انتظار وقوع أي من تلك الأخطار المستقبلية، والأهم من ذلك تجهيز وتهيئة المناخ الإداري والفني لمواجهة هذا النوع من الكوارث الطبيعية المستقبلية، عبر الاستعداد التام، وأخذ الاحتياطات اللازمة لذلك من جميع الجوانب لمواجهة تلك الكوارث الطبيعية والبيئة والصحية.