خطوات متعبة
سلوى عباس
فجأة.. تعثّرت خطاي، وضاق صدري عن الهواء، وبعثرتني الحالة كقشّة اقتُلعت عن سنبلة على حين هبوب، وتركتني هائمة في طرقات ضيّعها الضباب. مشيت في الطريق لا ألوي إلا على ذاكرة تعود إلى زمن بعيد، رحت استحضر ذكرياتي التي عشتها في مدينة لم تعُد ملامحها تشبهها..
في لحظة، ضاق الوقت، واتسع المكان لأزقّة وحارات لم اعهدها من قبل.. أدخل حارة لأخرج منها إلى زقاق آخر دون إدراك للاتجاهات، فالمدينة تغيّرت ملامحها التي نُقشت في ذاكرتي، ومساحة العمران أصبحت أوسع.
لا أعرف كيف ارتبكت الأنحاء حولي، واستوطن روحي حزن يشبه الفجيعة، وتلبّسني همّ ثقيل مربك أوقفني على حافة الألم. كان كل الإحساس بالغربة واشتعال الانتظار، وهباب الوقت الذي انطلق للحظة في عكس اتجاهي، مركباً لا تسانده الريح، ومطراً لا يسقط في القلب، والأحزان والأشواق انهمرت على طريق طويل ظننته لن ينتهي، وفي لحظة شاردة، وجدت نفسي في مواجهة مع البحر، ذلك الواسع الفسيح الذي مثّل ذاكرتي الأولى في تلك المدينة، وعلى شاطئه يتوضّع مقهى بحري كثيراً ما جلست فيه مع صديقتي الوحيدة التي بقيت لي من ماضي مدينتي، لكنها غدرت بي هذه المرة، فلم تكن موجودة معي.
في تلك اللحظة، لم أكن قادرة على إيقاف شريط الذكريات الذي استوطن كياني كله.. جلست مستوحشة مثل طير اقتيد إلى قفص، أكثر ما يمكنه أن يفعل هو الصراخ، بحر من الصمت بلا هدير، متسمرة في مكاني كقطار صدئ هجره المسافرون وتآكلت عجلات الطريق إليه، فقد حل بي إحساس باليتم وإحساس بفراغ المدينة وخواء الوقت من كل شيء.. اتسعت الدنيا فجأة ونبتت الوحشة في أضلاعي سريعاً وتشابكت مرارتها في عروقي.
****
آه أيتها الخطوات المتعبة.. يا خطواتي.. من أنا.. نسيت اسم حبيبي واسمي.. دليني على شوارع المدينة التي حبوت مع زهرها وأشواكها وتركت قبلاتي على بردها وحرها، وضحكي على غبارها.. من أنا أيتها الرياح الشتوية التي تمزق أشرعتي وتلسعني بسياطها، وتدفعني وتمضي.. وأنت أيتها الأبواب الموصدة والوجوه الأليفة التي تمر بي، أطلي عليّ بابتسامة لأتذكر اسم حبيبي واسمي، وأقسم أنني لن أنساه أبداً مرة أخرى.. أنا لا أذكر الأسباب التي غيبت ذاكرتي عني وملامحي عنكم.. ثمة وجع أوسع من جلدي يطوف من مسامي، وجدران يثقب اسمنتها وحديدها بصري ويدميه.. آه يا حبيبي.. رجع إليّ اسمك في زمني، وإن كنت بلا ذاكرة، وأجهل الأصقاع التي مرجحتني إليها.. أنا أعرف أني التقيتك في لحظة اشتياق ومنحتني حدة هذه المشاعر، ويقظة انتمائها إليك.
تطفحين بغيبوبة الوجع وأنينك ينداح أمواجاً في سواد الليل، لماذا؟ هذا لا يعني نهاية العالم، كفي عن الأنين، لم يصبروا عليك وألحوا.. حاصروك في الفراغ ونسيت الماضي والحاضر ولا يزال هناك مستقبل. أيتها المرأة التي تملصت ذاكرتها من أحضانها واستبد بها النسيان..
أرهقتها هذه الهواجس كثيراً.. كانت كما مسمار يُطرق في جدار أصم يتردد رجع صداه في وجدانها بكثير من الألم، فانتابها إحساس مرير بالانتظار وترقبها المتوفز لحركة الوقت وارتجافات عقارب الساعة المنتظمة، وتلبسها الارتباك وتداخلت اللحظات المتواترة لتبين عجزها عن اللحاق بالدقائق التي تهرب منها، وانتصبت في وجهها جبال من رهبة التأخر مرهون بدقات الثواني تقرع أجراسها في رأسها.. مرصودة لمرارة الوقت الذي ينسرب منها سريعاً ويترك في يدها حرارة الرمل ويرسم وجهها بالغبار.