تراجع قوة الولايات المتحدة بات واقعاً
عناية ناصر
وفقاً لبعض المراقبين، ستتضاءل الهجمات المستمرة التي تشنّها بعض النخب الأمريكية على الصين، وتختفي بمجرد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني 2020، لكن من غير المرجح أن يحدث هذا لسببين على الأقل: أولاً، القضايا التي تؤكد على استهداف الصين أساسية في طبيعتها وتتجاوز الانتخابات والشخصيات. ثانياً، تكمن جذور بعض هذه القضايا في مسائل القوة -الخاصة بالهيمنة والسيطرة- التي سيستغرق حلها عقوداً إن لم يكن قروناً.
عند فحص العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، يمكن البدء بمجالات الصراع تلك حيث تجاوزت الأخيرة الأولى، وسيتبع ذلك تأملات في مظاهر القوة الأمريكية التي لم تعد هائلة، سيتمّ استخلاص استنتاجات من هاتين الفئتين حول النمط الناشئ للقوة العالمية.
ضمن مجالات فرعية محدّدة من العلوم والتكنولوجيا، يبدو أن الصين قد تقدّمت على الولايات المتحدة، وخاصةً في مجال المراقبة البحرية والجغرافية عن طريق الأقمار، كما كانت التطورات الصينية في مجال الإلكترونيات والاتصالات مثيرة. ولأن الصين في طليعة التكنولوجيا المتطورة، هناك الكثير من القلق في الولايات المتحدة والغرب اليوم إزاء صعود الصين، وأولئك الذين سيطروا على العالم لفترة طويلة يعرفون أن التمكّن من العلم والتكنولوجيا هو الذي يمنح دولة أو حضارة القوة.
إن إتقانها للعلم والتكنولوجيا هو أحد الأسباب التي جعلت الصين في غضون عقود قليلة هي مصنع العالم لتصنيع مجموعة كاملة من السلع عالية الجودة بأسعار معقولة للناس في كل مكان، وإن نجاح الصين في اختراق الأسواق جعلها أمة لا غنى عنها للاقتصاد العالمي. حتى في صناعة الترفيه، أثار موقع مثل TikTok ضجة كبيرة بين الشباب مما دفع السلطات الأمريكية إلى حظره!.
وإضافة لإنتاجها للسلع والخدمات، فإن التحوّل الهائل للبنية التحتية العالمية للصين من خلال مبادرة “الحزام والطريق” من المتوقع أن يكون له تأثير دائم على البشرية، وهو مسعى يمتد عبر 138 دولة هدفها ربط آسيا بإفريقيا وأوروبا عبر الطرق البرية والبحرية، وبناء الطرق السريعة والموانئ، وعبر المشاريع الزراعية، وتسريع المشاريع الصناعية التي من شأنها زيادة الدخل وزيادة إنتاجية العديد من البلدان الفقيرة.
بالمقارنة، إذا بحثنا في كل ما تقدّم سنكتشف أن قوة الولايات المتحدة ليست سوى فقاعة، وأن ما يُسمّى “براعتها العسكرية” هو مثال على ذلك، فرغم أن لديها ترسانة ضخمة ونحو 800 قاعدة عسكرية تحيط بالعالم، إلا أننا ننسى أنها لم تنتصر في حرب كبرى واحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتشهد على ذلك حروب فيتنام والعراق والصومال وليبيا وأفغانستان، بل كان تورطها في الحروب في الخمسين أو الستين عاماً الماضية بمثابة كوارث لا يمكن تخفيفها.
حتى ركيزة الدولار الأمريكي -العملة الاحتياطية في العالم- لم يعد هو المهيمن كما كان من قبل. في عام 2015 على سبيل المثال، تمّ إجراء ما يقرب من 90٪ من المعاملات الثنائية بين الصين وروسيا بالدولار. وبحلول عام 2019 “انخفض الرقم إلى 51٪”، بسبب فرض الولايات المتحدة عقوبات على روسيا منذ عام 2014 بعد إعادة شبه جزيرة القرم، وفرض تعريفات جمركية على سلع صينية تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات، مما دفع الصين للتخلّص من الدولار. ومقابل ذلك عزّزت موسكو وبكين علاقتهما المالية في حزيران 2019 من خلال صفقة لاستبدال الدولار بعملات وطنية للتسويات الدولية بينهما، كما عملت روسيا على تعزيز احتياطياتها من اليوان على حساب الدولار.
لقد تلاشت فكرة أن الولايات المتحدة هي المهيمنة على العالم، وأنها أعظم دولة على وجه الأرض في العقدين الأخيرين، فالغزو والاحتلال الذي قادته على العراق عام 2003 كان غير عادل لأنه كان غير أخلاقي شوّه صورة الولايات المتحدة في عيون العالم، وأصبح يُنظر إليها على أنها دولة جشعة لا تتردّد في ذبح مئات الآلاف من الأبرياء سعياً وراء أجندتها للهيمنة.
وليست الحروب وحدها من كشف فقاعة الولايات المتحدة، فقد أدى فشل النخب الأمريكية في التعامل مع جائحة فيروس كورونا والمآسي الاقتصادية التي ولّدتها مقارنة ببعض دول آسيا إلى تحطيم صورتها وضربها مع وقوع 176 ألف وفاة، و5.68 ملايين إصابة. لقد وقفت تلك النخب مدانة بخيانتها للشعب والتضحية به، وإذا كان الحكم الرشيد هو السمة المميزة لـكل “دولة متقدمة”، فلم تستطع الولايات المتحدة النهوض بذلك. لقد كشفت جائحة الفيروس التاجي بكل عواقبها الوخيمة أيضاً عن مدى وجود مفاهيم معيبة للغاية حول “الحرية” و”حقوق الفرد”. وإذا كانت الحرية والاحتفال بالفرد هي من السمات المجيدة لمجتمعات مثل الولايات المتحدة، فقد أظهر الوباء لنا جميعاً مدى قبح سوء فهمها وسوء تطبيقها.
ليس صعود الصين هو المسؤول الوحيد عن تراجع الولايات المتحدة، بل إن منظورها المشوّه للسلطة، وشعورها المنحرف بالحرية الفردية، والأهم من ذلك كلّه شهوتها للهيمنة العالمية، كلها عوامل ساهمت في سقوطها. هذا هو السبب في أن الشعب الأمريكي -مع اقتراب موعد انتخابات رئاسية أخرى- يجب أن يفكر من أجل مصلحته في عيوب الولايات المتحدة ونقاط ضعفها كدولة.