الولايات المتحدة تقترب من مستويات الكساد
ترجمة: علاء العطار
عن موقع فالداي
نتج عن فيروس كوفيد-19 أكبر زيادة في الإنفاق الحكومي خارج إطار الحرب، إذ تقدّم الحكومات في معظم أنحاء العالم دعم الدخل للعمال الذين تمّ إبعادهم عن وظائفهم بفعل الحجر الصحي، وتخفّف من تبعات انهيار الطلب، حيث يمكث المواطنون الخائفون من فيروس كورونا في منازلهم دون سفر وتسوق وارتياد للمطاعم والمسارح وغيرها. وتستثمر الحكومات في البحث عن لقاحات، وتنفق المليارات على العلماء في المختبرات الحكومية والجامعات، وفي عقودها مع شركات الأدوية الخاصة، على أمل أن يقوم أحدها على الأقل بتطوير عقار فعّال. في الوقت نفسه، تدفع الحكومات تكاليف إنشاء العديد من المصانع التي ستكون جاهزة لإنتاج اللقاحات بكميات كبيرة.
تعكس الطرق التي تستجيب بها الدول لكوفيد-19 قدراتها وتوجهاتها الأيديولوجية وقدرة الرأسماليين والمصالح الخاصة الأخرى على التأثير على القرارات الحكومية، ونرى أن الولايات المتحدة تقف في قطب واحد، فبينما تتمتّع حكومة الولايات المتحدة بميزة هائلة تتمثّل في قدرتها على إنفاق مبالغ غير محدودة بفضل مكانة الدولار كعملة عالمية، ذهبت تريليونات الدولارات التي أنفقتها أدراج الرياح، إذ ساندت مدفوعات التأمين ضد البطالة التكميلية الاقتصاد، لكنها انتهت في 31 تموز، ومنحت الشركات المزيد من الإعفاءات الضريبية والقروض من دون فائدة والإعانات للاحتفاظ بالعمال. مع ذلك، انتهى الأمر بالكثير من الهبات للرأسماليين إلى تأجيج نار المضاربة في أسواق الأسهم والسندات، دون أن تقوم بأي شيء لمساعدة العمال العاديين. وفي غضون ذلك، لم تحصل الجامعات والمدارس وحكومات الولايات والحكومات المحلية إلا على القليل من الهبات، ويواجه الأمريكيون الآن الإفلاس المستقبلي للعديد من الجامعات وأنظمة النقل والمتاحف والمسارح، بينما ستضطر حكومات الولايات والحكومات المحلية إلى تسريح الملايين من موظفيها.
شهدت البلدان التي لديها أنظمة دعم دخل قائمة بالفعل وقطاعات عامة أكثر قوة زياداتٍ في البطالة والفقر أقل من الولايات المتحدة بكثير. تعدّ الولايات المتحدة فريدة في تمويلها لجامعات عبر فرض رسوم دراسية على الطلاب تساوي متوسط دخل العامل، وهي التكاليف التي يموّلها الطلاب من خلال تحمّل مبالغ ضخمة من الديون التي يتعيّن عليهم سدادها بعد ذلك على مدى عقود. وإذا كان الطلاب عاجزين عن الالتحاق بالجامعة شخصياً، تفقد المؤسّسات الدخل الذي تحصل عليه من المطاعم والكافيتريات، وقد أجبر ذلك بعض الجامعات بالفعل على فصل أعضاء هيئة التدريس وموظفين آخرين. بالطبع، إذا كان هناك ركود طويل الأمد، فسيحجم الطلاب عن تحمّل ديون كبيرة لدفع الرسوم الدراسية، وربما تؤدي هذه الظروف إلى إفلاس العديد من الجامعات وقد دفعت تلك الكليات بالفعل إلى تعليق التوظيف، الأمر الذي سيترك الجيل القادم من العلماء دون وظائف، ويجبرهم على الخروج من الأوساط الأكاديمية، سيكون لذلك آثار جذرية طويلة المدى في إعاقة البحث الأمريكي في العلوم والإنسانيات.
وبينما ينتظر العالم لقاحاً قد يخرج في أي وقت من نهاية عام 2020 إلى عام أو عامين، مع احتمال ألا يحدث أبداً (تذكر أنه لا يوجد لقاح للإيدز بعد أربعين عاماً من اكتشاف هذا المرض)، فشلت الولايات المتحدة، على الرغم من الإنفاق على الرعاية الصحية أكثر من أي بلد على وجه المعمورة، في استخدام تتبع الاتصال وفرض الحجر الصحي ثم استخدام اختبار الأجسام المضادة لتحديد الذين تعافوا من المرض ويمكنهم التفاعل بأمان مع الآخرين، مع توفير معدات الحماية لأي شخص آخر. هذه الإجراءات نفسها تُستخدم في ألمانيا وكوريا الجنوبية وتايوان والصين وفيتنام وغيرها من الأماكن التي تمكّنت من تقليل الوفيات وأصبحت الآن قادرة على السماح باستئناف الحياة الطبيعية والعمل.
لم تتمكّن الولايات المتحدة من تحقيق أي من هذه الأهداف، لأن نظام الرعاية الصحية الأمريكي منظم للسماح للكيانات الخاصة بمضاعفة أرباحها، ونتيجة لذلك، لا يوجد تنسيق مركزي ولا تتلقى تدابير الصحة العامة الأموال الكافية، وهي الجهات الأكثر فاعلية والأقل ربحية. ويتطلّب تتبع المخالطين تدريباً ودفع أجور لعدد كبير من العاملين في مجال الصحة العامة، وهذا ليس أمراً مربحاً، وقلّة من الأشخاص المهرة الذين يقومون بهذه المهمّة توظفهم إدارات الصحة العامة بالولاية وداخلها أو مراكز السيطرة على الأمراض، وكلها تمتلك ميزانيات أصغر مما كانت عليه قبل عشر سنوات.
يوفر التباين بين الولايات المتحدة وبقية العالم إثباتاً واقعياً لأهمية الدول القوية التي لديها القدرة على تطوير وتنفيذ تدابير الصحة العامة بسرعة كافية لإبطاء انتشار الأوبئة وعكس مسارها، ومنع مواطنيها من الوقوع في الفقر، كما يُظهر الحاجة إلى نظام رعاية اجتماعية قوي يمكنه تتبع العمال والتدخل بسلاسة لتوفير دعم الدخل. بالطبع، في البلدان التي تعتبر فيها الرعاية الصحية حقاً من حقوق الإنسان، بإمكان المواطنين الذهاب إلى الأطباء والمستشفيات عندما يشعرون بالأعراض وكلهم ثقة أنهم سيحصلون على الرعاية ولن تُستنفد أموالهم. لدى بعض البلدان، مثل ألمانيا التي قامت ببناء وصيانة فائض من أسرة المستشفيات لتكون جاهزة لحالات الطوارئ مثل الوباء الحالي، معدلات وفيات أقل بكثير من إسبانيا أو الولايات المتحدة التي أغلقت المستشفيات وخفضت عدد الأسرة لتوفير المال على مدى عقود من الليبرالية الجديدة في الاقتصاد.
كان الدعم الشعبي للنيوليبرالية محدوداً دائماً، ولطالما كان تحرير التمويل والتخفيضات الضريبية للأثرياء مقترناً بالتخفيضات في المزايا الاجتماعية من مشاريع النخبة، يرى الناس في جميع أنحاء العالم العلاقة بين القدرات الحكومية ومدى معاناتهم من العواقب الصحية والاقتصادية لفيروس كورونا.
إذا ألقينا نظرة إلى القرن الماضي، نجد أن الحرب والكوارث الاقتصادية كانتا القوى الكامنة وراء الضرائب التصاعدية وتوسيع المنافع الاجتماعية، إذ بدأت ضرائب الدخل والعقارات التصاعدية خلال الحرب العالمية الأولى في البلدان التي كانت ديمقراطية واستخدمت التجنيد الإجباري لملء صفوف جيوشها. وُصِفت هذه الضرائب على أنها مصادرات للثروة لتجاري تجنيد أفراد الطبقة العاملة. مع نهاية التجنيد في معظم أوروبا والولايات المتحدة في السبعينيات، أصبحت معدلات الضرائب أقل تصاعداً. وبالمثل، أُسّست مزايا الرعاية الاجتماعية أثناء الحربين العالميتين وبعدهما مباشرة وخلال الكساد الكبير في الثلاثينيات. منذ ذلك الحين، ظلت الفوائد مستقرة في أفضل الأحوال، وفي بعض البلدان، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، خُفضت بانتظام.
يتسبّب الوباء بصعوبات اقتصادية تقترب من مستويات الكساد في الولايات المتحدة، ووصل معدل الوفيات في الولايات المتحدة وبريطانيا والبرازيل وجنوب إفريقيا وبلجيكا، وربما في عدد من البلدان غير القادرة أو غير الراغبة في حساب الوفيات إلى ضعفي المعدل الطبيعي أو أكثر. هذه ليست مستويات في زمن الحرب، ولكن من الناحية الأخرى لم يتعرّض معظم الناس في العالم لمعدلات وفيات مرتفعة، وبالتالي فإن هذه الأعداد مقلقة ومربكة ومثيرة للذعر.
هل تُعدّ الوفيات والمصاعب الاقتصادية كافية لإحداث ضغط سياسي كافٍ لإجبار المسؤولين الحكوميين على سنّ برامج اجتماعية جديدة، وتمويل أولئك الذين يفرضون ضرائب على الأغنياء؟ من السابق لأوانه الجزم بذلك. يأتي أقوى دليل على أن كوفيد-19 سيغيّر السياسة أكثر مما فعلته الحكومات مسبقاً. وكما ورد أعلاه، قرّر السياسيون من اليمين واليسار بسرعة إنفاق مبالغ غير مسبوقة على إغاثة العاطلين عن العمل وتوسيع نطاق الرعاية الطبية، وكانت الإخفاقات نتيجة التخفيضات السابقة في الوكالات الحكومية والبنية التحتية التي جعلت الأموال التي يتمّ إنفاقها غير فعّالة. حتى الآن، لا تزال الرغبة في القيام بشيء ما قوية، باستثناء الجمهوريين في الولايات المتحدة. بالتأكيد، يأتي بعض الضغط من أجل الإنفاق من الرأسماليين الذين يدركون أنه إذا انهار الطلب على السلع والخدمات من الناس العاديين، ستتلاشى أرباح شركاتهم أيضاً.
على الجانب الآخر، من المحتمل أن يتبع الأغنياء في أماكن أخرى من العالم طريق الرأسماليين الأمريكيين وينقلبون ضد الإنفاق الحكومي، إذ يشعر الرأسماليون دائماً بالقلق من أن الإنفاق الحكومي المفرط سيؤدي إلى التضخم ويقلّل من قيمة ثرواتهم. في نهاية المطاف، سيتعيّن على شخص ما أن يدفع مقابل التحفيز على الإنفاق، ويخشى الأغنياء أنه سيكون من جيوبهم، وبالتالي بإمكانهم أن يحذوا حذو الأمريكيين الأغنياء ويدفعوا من أجل إنهاء تخفيف الإنفاق.
في النهاية، سيكون العامل الحاسم هو وجود أو عدم وجود تعبئة جماهيرية، فقد يؤدي الخوف من الموت واليأس من انهيار الأمن الاقتصادي للفرد إلى السلبية بسهولة، ومن الممكن أن يرضخ الناس في جميع أنحاء العالم لضغط الإفقار الاقتصادي. مع ذلك، كان هناك غضب من التوزيع المتطرف للثروة والدخل ومن قدرة الممولين على هدم الاقتصاد العالمي في عام 2008 ثم إنقاذهم من قبل الحكومات وعدم تحمّل أي عواقب على احتيالهم. يمكن أن تثير الطريقة غير المتكافئة التي يُحسّ عبرها بآثار الفيروس الغضب الجماعي وكذلك اليأس الانهزامي، ولا نعرف بعد كيف سيتمّ توجيه هذا الغضب. نرى المتسابقين اليمينيين أمثال ترامب وبولسونارو يحاولون إثارة الغضب ضد المهاجرين والأقليات وإقناع مؤيديهم بأن الفيروس ليس حقيقياً أو أنه صُنّع في المختبرات الصينية، والأحزاب اليسارية ضعيفة والحركات الاجتماعية في الغالب غير منظمة وتركّز على القضايا الضيّقة والسياسات القائمة على الهوية. مع ذلك، غالباً ما تظهر حركات اجتماعية ضخمة وفعّالة فجأة، هذا الاحتمال هو أفضل أمل لأن يؤدي كوفيد-19 إلى إنتاج حكومات أقوى ملتزمة بإعادة التوزيع وإعادة بناء قدرات الدول لخدمة مواطنيها.