“السلطان” ورهاناته القاتلة
أحمد حسن
منذ أيام قليلة أكدت وزارة الخارجية الروسية أن “تنفيذ أنقرة لالتزاماتها المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية المبرمة في الخامس من آذار هذا العام تجري المماطلة فيه”. الكلام الدبلوماسي الهادئ هذا جاء الرد عليه من وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، انفعالياً ومهدّداً بإمكانية انتهاء العملية السياسية في إدلب – كما أطلق على الواقع الراهن فيها – إذا أصرت روسيا على مطالبة تركيا بتنفيذ التزاماتها الموثّقة بين البلدين. في الوقت ذاته كانت أنقرة تقوم، عبر مستشار الرئيس التركي، بمناورة جديدة للتقرب من مصر “لإعادة هيكلة التحالفات الإقليمية القائمة”.
بكلام أوضح: أنقرة التي تماطل في سورية وتخاطر، بالتالي، بعلاقتها التحالفية – ولو الموضوعية والموضعية – مع موسكو وطهران، تناور مع القاهرة، لتحييدها، وإذا أمكن ضمّها، لحلفها مع الدوحة ضد الرياض وأبو ظبي.
ببساطة لا تفسر تلك السياسة بتورّم وهم الظل الطويل الذي يراه السلطان ملازماً له فقط، فالرجل يراهن في عدم استجابته لمواثيقه الملزمة مع موسكو على عدم رغبتها، أو قدرتها، على معاقبته، لأنه، كما يرى، ضرورة ماسّة لها في رهاناتها الدولية، وهي ضرورة لن تفرط بها من أجل ادلب، وفي أسوأ الأحوال يعتبر أنه يمكن أن يقايض هذه الأخيرة بتقديم حوافز لموسكو في ليبيا مثلاً.
أما بالنسبة لمصر فالرجل يلعب على حقيقة أن القاهرة ستكون الطرف الأقل استفادة، أو الأكثر تضرراً من المصالحة الخليجية، بين الدوحة وكل من الرياض وأبوظبي، التي يسعى ترامب لتحقيقها قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، كما أنها، أي القاهرة، فقدت، في ظل التطبيع العلني بين الخليج و”إسرائيل”، بعض أدوارها الحيويّة، وبالتالي أهميتها، كجسر للعلاقات السريّة السابقة بينهم، وبالتالي يمكن للسلطان، كما يعتقد، أن يلعب في هذه الفجوات الاستراتيجية المستجدة بصورة أو بأخرى.
بيد أن الواقع يقول: إن السلطان الماضي قدماً برهاناته القاتلة يواجه اليوم أسئلتها المؤجلة، فالرجل الذي يعادي اليوم أوروبا ودول جواره بأكملها، وحتى بعض محيطه الأبعد، يريد اليوم أن يواجه سؤال “ادلب الكبرى” بجوابه القديم والدائم، هذه منطقة نفوذي المطلق، ولن أنفّذ أي التزام، ولو كان موثقاً حولها، إلا بما يخدم استراتيجية استعادة العثمانية الطورانية المأمولة. لكن السلطان في عنجهيته السافرة يتجاهل حقائق عدّة، أهمّها أن العملية السياسية التي يهدّد بإنهائها في ادلب لم تنتج سوى حكم القاعدة المتزاوج مع الاحتلال التركي، وهذا أمر لن يرضى به أبناء المنطقة على المدى الطويل، وبالتالي فإن سؤال ادلب ليس روسياً بالمطلق، بل هو أولاً وأخيراً سؤال السوريين الذين يطرحونه بصورة مستمرة وملحّة، وهو يعرف، ويخشى، حقيقة أنهم أجابوا سابقاً بكفاءة عالية على سؤال “حلب الكبرى”، وبالتالي، ومهما طال الزمن وتعددت المصاعب وتكاثرت الألعاب الدولية وقصص تبادل المصالح، فهم سينسخون حرفياً إجابتهم السابقة ليطبقوها على “سؤال ادلب” المطروح الآن وغداً، وفي كل وقت قادم، وهو يخشى أيضاً أن تجبره الظروف الجيوسياسية المتغيّرة، وتكاثر أعدائه، وآخرهم فرنسا، وأوروبا معها، على أن تكون إجابته هنا ليست إلا استنساخاً حرفياً لإجابته على سؤال حلب، وفي ذلك مقتله السياسي، لأنه، في فورة الحلم الخليط بين العثمانية، والاخوانية، والطورانية، الذي راوده عام 2011، وبعد “ولاية” ادلب وليبيا أصبح المتوسط بحره الخاص، وبالتالي أغرق المراكب مع الجميع، والأخطر من ذلك أنه جعل الأمر شأن تركي داخلي بمعنى أن الربح فيه مضاعف، لكن الخسارة قاتلة بالمعنى السياسي، والشخصي أيضاً.
بهذا المعنى نفهم التصلب الأردوغاني في سورية والمناورة مع مصر كاستمرار لرهانات السلطان القاتلة لأنه يتجاهل أو لا يريد أن يفهم أن البيئة الاستراتيجية لعام 2020، وما سيتلوه لا تشبه بيئة عام 2011 التي كشف فيها رهاناته، وأن الظرف التاريخي اليوم لا يشبه بأي حال زمن “محمد الفاتح” -وهو على كل حال زمن يزيد استذكاره الدائم له من عداوة الأوروبيين له – بل هو أقرب إلى إرهاصات ما قبل الحرب العالمية الأولى التي أنتجت معاهدة “سيفر”، والتي كانت، بدورها، المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية العثمانية، فهل من يعتبر؟!