ذلك النشيد
د. نضال الصالح
وقبلَ ما يزيد على نصف قرن، وفي مثل هذا اليوم، بل في مثل هذا الصباح، كانَ صالح يردّد، أول مرة، النشيد الذي لم يكن يحفظ آنذاك. يلثغُ بكلماته التي كان يموسقُ، كما يسمع، من الأطفال الذين يكبرونه، والأساتذة الذين كانوا يصطفون أمام سارية العلم وهم يرددون النشيد معاً. وبعدَ نحو خمس وعشرين سنة من ذلك الصباح سيحكي الطفل الذي صار أباً لطفلته البكر وهو يضاحك بأصابع يمينه ضفيرتيّ شعرها الفاحم وخديّها المترفين بلون الحنطة، في طريقهما إلى مدرستها، سيحكي لها عن ذلك الصباح الذي يشبه هذا الصباح تماماً، عن وقوفه وعشرات من الأطفال في مثل سنّه في باحة مدرسته عندما كان طفلاً، ويرهف أذنيه إلى ذلك الرجل البدين وهو يقرأ من أوراق بين يديه ليمضي كلّ طفل جديد إلى الشعبة التي كان يسمّي، ثمّ ما يكاد الرجلُ، مدير المدرسة، يذكر اسمه، حتى يمضي إلى آخر الرتل، فيطلق ذراعه الأيمن على طوله، وبعد أن يبسط كفّه على كتف الطفل الذي أمامه، حتى يضجر الآخر بالكفّ التي استراحت على كتفه، فيثني جسده الصغير قليلاً، فتسقط ذراع الطفل إلى الأسفل.
هذا الصباح، وبينما الطفلُ الذي صار أستاذاً في الجامعة يستعدّ للمضيّ إلى محاضرته الأولى، وبينما، من المدرسة المجاورة لمنزله، يتناهى إلى أذنيه النشيدُ، النشيدُ الذي كان ردّدَ، متلعثماً، أوّل مرة قبل نحو نصف قرن، وجدَ نفسه وقد تجذّرت قدماه في المكان، انغرستا فيه كشجرتين لم تقو عليهما عاصفاتُ الزمان، ثمّ وهو يثني ساعده جهة صدغه الأيمن، ويبسط كفّه، كما كان قلّد الأطفال الذي كانوا يكبرونه آنذاك، ثمّ يردّد النشيد، ثمّ ما يكاد يتمّ البيت الأخير، حتى ينهمر دمعٌ من روحه التي تداعت عليها ضارياتُ الحزن فيما مضى من السنوات العشر الأخيرة، ضارياتُ الظلام التي افترست الحيّ الذي ولد فيه، والأحياء المجاورة له، بل المدينة القديمة كلّها التي كانت روحه تتيممُّ بغبار حجارتها التي لا تشيخُ، وبحجارة القلعة الرابضة في القلب منها، ثمّ بحجارة تلك المدرسة التي ردّد النشيد أوّل مرة فيها، والتي طالما كان يأوي إليها كلّما دهمه حزنٌ، فيحكي لها ما يثخنُ روحه من الحنين إلى عالم خالص من الأشرار، وطاهر من دنس البشر الضباع، فتربّت على روحه كما كانت أمّه تفعل قبل أن تمضي روحها إلى السماء، فتهدأ روحه، بل تطمئن إلى أنّ هذا العالم الملوّث بالدول الذئاب، والممالك المهالك، والرايات الدم، لا بدّ أن يتوضّأ، ذات صباح سيأتي، لا بدّ سيأتي، بالحياة.
دقائق قليلة والمدرسة التي كانت تردّد النشيد الوطني في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد، كانت تستقبل أيضاً صباحاً لم يكن لأحد فيها، تلاميذ ومعلمين وإداريين، أن يتوقّع. كان الجميع يندفع نحو الباحة، ثمّ يشرع عينيه وروحه نحو رجل في نحو الستين من العمر وهو يقف في منتصف الباحة، وفي مواجهة سارية العلم التي تتوسطها، ثمّ وهو يثني ساعده جهة صدغه الأيمن، ويبسط كفّه، كما كان قلّد الأطفال الذي كانوا يكبرونه قبل ما يزيد على نصف قرن، ثمّ يردّد بصوت يشبه الترتيل:
حماة الديار عليكم سلام.