وضع الأدب عند أهل حلب في القرن الثامن عشر
إنّ الأمثلة الشائعة عن الباشوات والضباط الكبار في القرن الثامن عشر أنهم لا يفقهون القراءة أو الكتابة، كما أنّ عدداً كبيراً من التّجار المسنين في ذلك الزمان أميون تماماً، إلا أنّ الجيل الصاعد أخذ يتعلّم بشكل يكفي لكتابة مراسلاتهم الخاصة، وأحياناً يلجؤون إلى الكتبة في أمورهم الأخرى.
توجد كتاتيب لتعليم الأولاد، والمعلمون هم مشايخ يحصلون على رواتب ثابتة، إضافة إلى ما يدفعه التلاميذ لهم، وعندما يجلس الصبية في الكتّاب، يمكن رؤيتهم عبر نوافذ كبيرة مفتوحة على الشارع، ويمكن سماع أصواتهم وهم يردّدون، ويحركون أجسامهم إلى الوراء والأمام بشكل متواصل وهم يقرؤون، ولا يسمح للتلاميذ بالتسكع في الشوارع وحدهم، وغالباً ما تهدّد النسوة أولادهن بإبلاغ الشيخ إذا لم يحافظوا على الهدوء في البيوت.
أمّا المدارس المخصّصة للطلاب فهي قليلة جداً، ويتألف بناؤها من غرفة للقراءة وشقة للشيخ، وغرف فيها أسرّة للطلبة، ويدفع لهم مبلغ ضئيل، علماً بأن مرتب الشيخ يكون ضئيلاً جداً. يملك بعض الأغنياء مجموعة كبيرة من الكتب، وأصبح جمع الكتب في ذاك الوقت موضة بين التّجار الأثرياء، وفي الوقت ذاته، فقد أدّت هذه الظاهرة إلى ارتفاع أسعار المخطوطات وتكلفة نسخ المخطوطة الواحدة مرتفع جدّاً، وعند الانتهاء من إعداد أية مخطوطة، تتمّ دعوة عدد معيّن من المشايخ والأفندية لحضور قراءتها، ويحضر كلّ شخص ومعه نسخة من الكتاب الذي سيتمّ جمعه، مع حامل وقليان، وعندما يقرأ أحدهم المخطوطة بصوت عالٍ يثبت الآخرون عيونهم بتركيز شديد على مخطوطاتهم، ويتمّ تصويب الأخطاء الصغيرة، أمّا الأخطاء الكبيرة، إذا حدثت، فإنّهم يضعون كتبهم ويملؤون قليانهم بالتبغ، ويتابعون المناقشة باهتمام.
يمضي المتعلمون وقتاً كبيراً في دراسة اللغة العربية، ويختلف لفظ اللغة العربية الفصحى عن اللغة العامية، لأنها تُقرأ بفصاحة ووضوح، ويوجد لديهم عدد كبير من الكتب التي تتناول علم اللغة، إضافة إلى المعجمين الكبيرين، وهما: القاموس والصحاح.
يشكّل علم الكلام وعلم الفقه اللذان يتناولان دراسات دينية وتفاسير كثيرة جدّاً حول القرآن والسنة المواضيع الرئيسية، وبما أن الموضوع قد أشبع دراسة فقد انصرف الطلاب إلى جمع آراء وأفكار السلف، دون أن يجرؤوا على تصويب الأخطاء، أو حذف أي شيء من هذا الكم الهائل من الكتب. وأصبح علم الفلك علماً في غاية الأهمية، وما زالت كتب عديدة محفوظة حول هذا الموضوع في المكتبات، ويطلق على العالم المشتغل به اسم منجّم، ويدّعي علماء النجوم أن بوسعهم التنبؤ بالأحداث القادمة من دون دراسة الأبراج، والتنبؤ بالحروب والأوبئة والكوارث العامة الأخرى، إنهم يعرفون مبادئ هذا العلم معرفة سطحية، ويتحدثون عن أبي معشر الفلكي.
ورغم أنّ السكان يلجؤون غالباً إلى التعويذات، إلا أنهم يبدون اهتماماً بالطلاسم أقلّ من بعض الشعوب الشرقية الأخرى، وهم لا يؤمنون كثيراً بهذه المعتقدات الخرافية، إلا أنه توجد لديهم تعاويذ لحمايتهم من العناكب والثعابين والبق والهوام الأخرى، وتدوّن على الحجاب بعض أسماء الله الحسنى وآيات قرآنية، وأدعية، وتوضع في قطعة صغيرة لحملها، وغالباً ما تخفى قصاصات صغيرة من الورق في شاش العمامة بعد لفها.
يمكن مصادفة كيميائي بين الحاذقين في علم الفلك وفنون التنجيم والسحر، ويعتقد الكثير من السكان بإمكانية تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، ولا تدخل الرياضيات في مجال العلوم، وتعتبر مهملة بشكل عام، ويمكن القول: إنّ هذا العلم يضيع في طيات المجلدات التي كتبها القدماء، وهم يتعلّمون الحساب العملي بشكل يكفي لأداء عملهم، إلا أنّ التجار الحلبيين لا يستخدمون القلم والحبر أثناء إجراء حساباتهم، مهما بلغت من التعقيد، ويظهرون مهارة في ذلك، ولاسيما عندما تشمل عملية الحساب بضائع وسلعاً من مختلف الأنواع والأسعار في صفقة واحدة، ولا يستخدم الحلبي في حساب النسب سوى رأسه، فهو يجمع ويطرح ويضرب ويقسّم ويبدي دهشته عندما يرى تاجراً غير حلبي وهو يملأ نصف صفحة من الورق بالأرقام بشكل غير ضروري. أما معرفتهم بالجبر فهي سطحية شأن الرياضيات، ولم يتمّ إجراء تقدّم في التاريخ الطبيعي والجزء التجريبي من الطب منذ قرون عديدة، ولا يبدون رغبة كبيرة في الحصول على المعلومات، ونادراً ما يبدون اهتماماً بالفكر الفلسفي إلا إذا كانت هذه الحقائق تثير الاستغراب، ويبدو أنّ الفلسفة التجريبية لم تحظَ باهتمام في أي عصر من العصور، كذلك لم يحظَ علم التاريخ بقدر وافٍ من الاهتمام على يد المتعلمين في حلب، وهم لا يبدون أي اهتمام بالبلاد الأخرى، ولديهم معرفة سطحية عن تاريخ العرب، كما لا يولون اهتماماً بالتواريخ أو التأريخ، ولا يعدّون التاريخ سوى سلسلة من الحكايات غير المترابطة تروى من دون دقة، وفي مناقشاتهم يلجؤون إلى أمثلة حديثة ولا يرجعون إلى تجربة الأزمان القديمة.
أهمل المؤلفون الحلبيون علم الجغرافيا، أمّا بالنسبة للفنون الأخرى، فقد نبذت المعتقدات السائدة في الرسم، في حين انحطت الموسيقا لتصبح مهنة للارتزاق، وهم يبدون تسامحاً تجاهها إلا أنهم لا يشجعونها.
ما زال الشعر يحظى بدرجة من الاحترام بين صفوف الأدباء، في وقت تقلّصت فيه العلوم واعتبرت غير مستحبة، إلا أنّه ورغم أن الشعر ما زال محطّ الإعجاب والتقدير، فإنّه يقال إنّ شيطان الشعر قد ولّى، ولا يحاول الشعراء الحلبيون كتابة أكثر من مرثية أو أرجوزة أو حكم وأقوال مأثورة، ولعلّ سبب ذلك شعورهم بعدم إمكانية الوصول إلى روعة الشعر القديم الذي يكنون له إعجاباً وحماساً زائدين.
*المراجع:
كتاب نهر الذهب، تأليف كامل الغزي، دار القلم، حلب 1993.
تاريخ حلب، تأليف آردفازد سورسمايان، دار النهج، الطبعة الثانية 2003.
تاريخ حلب الطبيعي، تأليف الأخوين راسل، شعاع للنشر 1999.
حلب، تأليف هانيتز غاوبه وأويفين فيرث، وزارة الثقافة 2007.
فيصل خرتش