د. محمد إسماعيل بصل: المسرح لا يموت إلا بموت المجتمع
يبقى المسرح عند الكاتب والمسرحي د. محمد إسماعيل بصل شغفه الأول، حيث كرّس سنوات طويلة من عمره ملتصقاً بخشباته، ولأنه العاشق لأبي الفنون ورغم كل الإحباط الذي يكتنف هذا الفن والمشتغلين فيه، إلا أنه يبقى “المحكوم بالأمل”.
وحول مدى قدرة المسرح على محاكاة الواقع وأداء رسالته في ظل مستجدات تقنية هائلة متسارعة، يؤكد د. بصل أننا نواكب عصراً يُذهل العقل ويدهشه، فالمستحدثات العلمية تتسارع بخطى تسبق خطانا، ولا أظن أن المسرح بإمكانه فعل شيء سوى الكلام عن إنسان هذا العصر في أزماته، ولعلّ من وظيفة المسرح تسليط الأضواء على هذه الأزمات ومحاولة تقديم اقتراحات موضوعية ووضع خطط وبرامج قادرة على مساعدة الإنسان على فهم ما يحدث حوله وحضّه على اتخاذ موقف إزاءه، ولم يعد المسرح قادراً على تحقيق عنصري الفرجة والمتعة، ويضيف: إنّ جلّ ما يمكن للمسرح أن يفعله اليوم هو الاعتماد على تكثيف الحدث وصياغته بطرق فنّية جديدة لم يسبق للمسرح أن توصّل إليها، وأظن أن هذا ممكن إذا توافرت جملة من الشروط القاسية والمكلفة مادياً، يجب على المسرح أن يعتمد على اللقطة والومضة والصورة ولا يجوز على الإطلاق تقديم مسرحيات شكسبيرية بالطرائق التقليدية المعهودة، وهذا يتطلّب أماكن جديدة للفرجة وصيغ مبتكرة لهندسة الفضاء المسرحي، وهذا بطبيعة الحال ضرب من المستحيل في بلاد ليس فيها أمكنة مسرحية بالأساس، وإن المسرح –وللأسف– يتراجع ولم يعد ذلك المكان الحميم الذي يُسعد الناس بالذهاب إليه، والمشكلة ليست في المسرح بالتأكيد ولكن في أزمة العصر الجارف المتغيّر غير الثابت الخطير.
وعن تفاعل الحركة المسرحية المحلية مع الحرب وآثارها، يقول د. بصل: لم يستطع المسرح أن يقدّم خلال سنوات الحرب سوى عدد محدود جداً من الأعمال في سياق تسجيل أنشطة لهذه الوزارة أو تلك المديرية أو المنظمة الشعبية أو الجمعية. نعم لقد قدّمنا أعمالاً مسرحية خلال هذه الحرب وكانت القذائف الغادرة تصل في بعض الأحيان إلى الخشبات المسرحية ومع ذلك كان العرض يستمر، وهذا بحدّ ذاته دور لعبه المسرح. ثمّة عدد هائل من التساؤلات التي تحتاج إلى نقاشات موضوعية يشترك فيها المسرحيون والداعمون للمسرح والمتفرجون، وقبل ذلك كله لابدّ من توفر المكان المسرحي، فمن غير المنطقي أن يكون هناك مكانان للعرض المسرحي في دمشق، وألا تملك بعض المحافظات الأخرى مكاناً واحداً لتقديم العروض المسرحية، المسرح مازال محافظاً على شروطه المألوفة والساذجة، ومن المستحيل أن يحاكي المسرح واقعاً مأزوماً وهو ذاته واقع في أزمات. المسرح يحتاج إلى إمكانيات مادية هائلة ليكون قادراً على جذب الناس وحثّهم على العودة إلى متابعته، ويجب إعادة النظر في مفهوم المسرح برمّته ومحاولة وضع مناهج جديدة لقراءته وإخراجه من نفقه المظلم.
وعن مساهمة النقد في تطوير وإغناء الحركة المسرحية، يقول د. بصل: لقد تجاوز الفعل المسرحي الفعل النقدي بأشواط، على الرغم من أن ثمة معهداً عالياً للفنون المسرحية يخرّج في كل عام دفعات من قسم التمثيل ودفعات من قسم النقد، إلا أن دفعات قسم النقد وللأسف تنخرط في الفعل المسرحي ذاته ولا تشتغل في النقد، ليس لأن طلاب هذه الدفعات لم يحصّلوا معلومات مهمّة في مجال النقد المسرحي، إنما لعدم وجود هيئات تساعدهم على نشر ما يكتبون أولاً، والأجور الزهيدة التي يتقاضونها على ما ينشرون ثانياً، ولخطابهم النقدي الاستعلائي الذي لا يفهمه ولا يستسيغه القارئ ثالثاً، لذلك نرى معظمهم يتخلون عن اختصاصهم في النقد ويلهثون خلف كتابة سيناريو عمل تلفزيوني، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أو إلى إخراج المسرحيات. ويضيف: لو تحدثت عن الرسائل الجامعية في الماجستير والدكتوراه ثمّة ما ينجز منها بالعشرات سنوياً في الجامعات السورية، وأنا شخصياً أشرفت وناقشت المئات منها خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ولكن هذه الرسائل لا تنضوي تحت ما يسمّى بالنقد المسرحي لأن من ينجز هذه الرسائل الجامعية هم باحثون لم يحتكوا بالخشبة ولم يقتربوا من العرض المسرحي ولم يندمجوا في ورشة عمل مسرحية، وبالتالي فإن كتاباتهم تندرج في إطار الأدب المسرحي، وهذا لا يعدّ نقداً مسرحياً. أمّا إذا ذهبنا إلى المجلات المتخصّصة فثمّة مجلة وحيدة في سورية تُعنى بشؤون النقد المسرحي، ولكن كما قلنا سابقاً أزمة المسرح هي أزمة نقد أيضاً، وبالتالي ابتعد النقاد المسرحيون عن نشر دراساتهم لأسباب عديدة ليس آخرها ضعف الأجر الذي يتقاضونه.
وحول العلاقة بين النص- الإخراج- التمثيل، وغيرها من أركان العمل المسرحي، في تحقيق نجاح العمل، يقول: لا وجود لنص مسرحي جيد في أتون هذه الأزمات للأسف لأن الواقع صعب وقاسٍ، لكنه لا يمكن أن يكون محبطاً، والدليل أننا ما زلنا نقضي أوقاتاً طويلة للبحث عن نص مناسب يمكن تقديمه. عشرات الجلسات تتخللها مناقشات وحوارات وقراءات تقوم بها مجموعة مسرحية مؤمنة بالمسرح وعاشقة له، وبعد أن يتمّ اختيار النص ثمة أيام وليال وأسابيع وشهور يتمّ فيها تدريب مستمر ومضن على خلق العرض المسرحي، ومن ثمّ تأتي أيام العرض المسرحي وتعيش الفرقة شغفها بالمسرح وبفن التمثيل الراقي وثمة عشرات الفرق المسرحية تعمل وتفعل هذا، فالمسرح يمكن أن يكون في أزمة لكنه لا يموت إلا بموت المجتمع كله، فطالما هناك مجتمع هناك مسرح.
وعن رأيه في: المسرح القومي- الجامعي- الشبيبي- العمالي.. وغيرها، يؤكّد: “مما لاشك فيه أن المسرح القومي وروافده من مسرح عمالي وطلابي وشبيبي وأهلي قدموا كثيراً من الأعمال المسرحية في السنوات الأخيرة، لكن هذه الأعمال لم ترتق لمستويات الأعمال التي قدمتها هذه المسارح في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وهذا يعود إلى طبيعة العمل في كل هذه المسارح، فالمسرح القومي –على سبيل المثال– وعلى الرغم من أنه لم يعد محصوراً في العاصمة وحكراً عليها، بل بات هناك عدد من المسارح القومية في المحافظات كافة، إلا أن طبيعة العمل لم تأخذ بالحسبان التغيّرات الهائلة التي حصلت منذ الستينيات والسبعينيات حتى الآن، ولعلّ المشكلة ليست في المسرح القومي بذاته بل هي مرتبطة بمشكلات أخرى تتسع دوائرها لتشمل وزارات تتجاوز وزارة الثقافة نفسها، ولعلّي ذكرت سابقاً أن طاقاتنا أكبر بكثير من إمكانياتنا. أتحدث هنا عن طاقات الفنيين من ممثلين ومخرجين وسينوغرافيين وكتّاب، وإمكانيات الوزارة من دعم مادي يمكن توزيعه على هذه المسارح في المحافظات. ببساطة أقول إن ثمة عزوفاً عن المسرح من قبل الفنيين الذين يجدون فرصاً تسمح لهم بتأمين قوت يومهم بعيداً عن صالات المسرح وخشباته”.
وعمّن يمكن أن يدعم المسرح، يقول د. بصل: كما تلاحظ الدعم المادي مهمّ على عكس ما قد يزايد عليك أحدهم ويقول إن من يعشق المسرح يضحّي بكل شيء ويبقى على المسرح، هذه الشعارات الجميلة التي عشنا عليها زمناً طويلاً لم تعد صالحة اليوم. أنا شخصياً بدأت مسيرتي المسرحية في عام 1975 ممثلاً في المسرح الجامعي، كنّا ندفع من مصروفنا الضعيف أساساً ليخرج العرض المسرحي ونعيش شغفنا الجماعي كفرقة مسرحية في الجامعة، ولكن هل هذا الأمر يمكن تحقيقه اليوم؟ هل تستطيع أن تلزم الطالب أن يأتي إلى البروفات المسرحية اليومية، وتقول له إن المسرح لا يطعم خبزاً لكنه يطعم شعوراً بالسعادة والتميّز؟ لا أظن، خاصة وأنني أشرفت فيما بعد على فرقة مسرحية في الجامعة لست سنوات متتالية، لكن مع نهاية التسعينيات بدأت فورة الأعمال الدرامية وقدومها إلى اللاذقية للتصوير، وهنا حدث التصادم بين من أراد البقاء في المسرح ومن تسلّل إلى كواليس التصوير التلفزيوني، وما يزال هذا التسلل قائماً، ولعلّه في أشده هذه الأيام، انظر إلى إقبال الطلاب على التسجيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، هل هو شغف بالمسرح وفنون أدائه؟ أم سعي للشهرة والانخراط بالدراما التلفزيونية؟ لقد تغيّرت المفاهيم وعلينا أن نواكب هذه التغيّرات ونطرح البدائل، ولعلّ أولها إعطاء المسرح قيمة إضافية.
ورداً عن سؤال عن مشروعه في المسرح وملامح هذا المشروع في ضوء تجربته الغنية، يختم د. بصل: “عندما أتحدّث عن مشروعي المسرحي أبدو رومانسياً في زمن الوقائع المرّة، لذا سأكتفي بالقول إنني كرست سنوات كثيرة من عمري ملتصقاً بخشبات المسرح وعملت في المسرح الجامعي والقومي والشبيبي والعمالي، وكتبت وأخرجت عشرات المسرحيات خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ويبقى المسرح شغفي الأول كلما استطعت إليه سبيلا. لقد اشتغلنا على خشبات مدمّرة وامتزج دمنا بعرقنا في سيمفونية الاحترام والتقدير لأبي الفنون المسرح. ومازلنا قادرين على العطاء عندما يتوفر المناخ المناسب للتضحية التي آمنا بها طريقاً للحوار مع الآخر، هذا الآخر الذي جاء متفرجاً على حكاياتنا. فهل سيأتي اليوم الذي يعود فيه المسرح إلى ألقه وبريقه وتألقه؟ سنتفاءل دائماً”.
حاوره: مروان حويجة