الشعر إلى أين؟
أمين إسماعيل حربا
لما كانت الموسيقا الكونية الخالدة هي نتاج حركة هذا الكون بكل ما فيه من الحركة الكلية له لتصل إلى حركة أصغر ذرة فيه، فإننا نراها تنبعث بدقة متناهية وحركة ثابتة لا تتغيّر إلا وفق قانونها العام، وكل ما يشذّ عن هذا القانون أياً يكن من الذرة حتى المجرة نراه يتعرّض للدمار وسر ثباته وديمومته هي هذه الموسيقا التي تولدها هذه الحركة المتناغمة.
ولو سحبنا الأمر وصولاً إلى صوت أي منتج إنساني يعتمد على الحركة، لوجدنا أننا نكتشف العطل فيه من الأصوات الشاذة التي تصدر عنه. وقد سُمّيت الموسيقا لغة العالم لأن كل الأنفس تتناغم معها بعمق وتفهمها دون الحاجة لمترجم، فكانت التراتيل والترانيم التي تبتهل بها كل الكائنات لمبدعها العظيم.
ومن هنا ولد الشعر الفطري الذي يعتمد على نظام كلمات تصدر عند نطقها موسيقا متناغمة مترابطة لا يبدعها إلا أصحاب الأنفس المنسجمة مع هذا الكون، ومن هذا التناغم الموسيقي الدقيق والرتيب الذي يمسّ الأنفس قبل العقول أخذ الشعر اسمه وصفته الإبداعية. وكلما ابتعد الإنسان عن التناغم النفسي مع مبدعه ومع الكون وشعر بالغربة النفسية والعقلية بدأ يعبّر عن قلقه وغربته بأنماط شعرية غير منسجمة وغير مترابطة لا تولد أي نوع من التناغم الموسيقي الخلاق، فظهرت بداية أنواع من الشعر المتفلت قليلاً من قوانينه وكان له رواده القلائل، ثم وصل لهذا الانحطاط فامتلأت الأدبيات بنصوص مليئة بالاغتراب والقلق وعدم الترابط بما يثير الشفقة والرعب من هذه الأنفس المعذبة، وأصبح روادها بعشرات الملايين وانتشرت كالنار في الهشيم لأنها ليست بحاجة لأي قانون أو نظام تحت ذرائع مثل الحداثة وسهولة التعبير عن الذات. وأكاد أجزم باندثار هذه الظواهر الشاذة مستقبلاً، لأن سنة الكون تقضي بفناء كل ما هو شاذ وغير طبيعي ولا ينسجم مع الروح الكونية ولو بعد حين.
ولا نستطيع أن نلقي اللوم على هذه الأنفس والعقول المنتجة لهكذا كتابات لأنها بحاجة للتعبير عن ذواتها، بل علينا أن نلقي اللوم على من هم أمناء على الثقافة كيف يسمحون بنشر كل هذا الكمّ من الكتابات المليئة بالوهم والتناقض وتوثيقها في دواوين وتسميتها بالشعر تحت أي مبرّر حتى لو كان مادياً بقصد التجارة والربح أو معنوياً. وكلي ثقة بأنه سيأتي يوم يحاسبهم به التاريخ عن أفعالهم غير المسؤولة، هذا إذا افترضنا حسن النية بالأمر.