المفاضلة الجامعية.. خيارات تحت ضغط الرغبات العائلية والمستقبل في قبضة معدلات القبول!
أعلنت وزارة التعليم العالي عن الحدود الدنيا للقبول في الجامعات والمعاهد التقانية والعليا، وكالعادة تلقى المعدلات لجهة ارتفاعها انتقادات كثيرة من الشارع السوري تصل حدّ الاتهام بعرقلة التحصيل الدراسي للأبناء، ولكن للأسف دائماً لا تؤخذ تلك الانتقادات على محمل الجد من قبل “التعليم العالي” رغم أحقيتها في بعض الأحيان، كون الوزارة تكون قد استندت بتحديد المعدلات إلى نسب النجاح بالفرعين الأدبي والعلمي، ووفق احتياجات الكليات، لكن بالمحصلة لا زالت طرق القبول لا توحي بالثقة والمصداقية، ولا تحقق العدالة بين الطلبة المتفوقين بجدهم واجتهادهم، وبين آخرين حصلوا على درجات عالية مشكوك بها جرّاء التجاوزات التي تحصل في امتحانات الثانوية العامة بفرعيها العلمي والأدبي!.
ولسنا هنا بصدد التعليق على هذه الجزئية الخاصة بالمفاضلة الجامعية، فما يهمنا الآن هو النقاش حول أهمية اختيار التخصّص الجامعي المناسب للطالب، فغالباً ما يثير هذا الموضوع شجوناً ويسبّب ألماً للطالب، عندما يتدخل ذووه بتحديد ما يجب دراسته حتى لو كان ذلك ضد رغبته، وما يزيد الطين بلّة أن الأهل لا يدركون حجم الكارثة التي تترتب على إجبار أبنائهم دراسة تخصّص لا يريدونه، والمشكلة أنهم يصحون بعد فوات الأوان، حيث يضيع مستقبل الطالب بعجزه عن متابعة تحصيله العلمي في اختصاص لم يفكر به يوماً، وحينها يلجأ لتغييره أو التسرّب من الجامعة، وبالمحصلة ضياع حياته الجامعية وجعل مستقبله ضبابياً معدوم الرؤية!.
ذكريات جامعية
أذكر في تسعينيات القرن الماضي، عندما كنّا ندرس في قسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة دمشق، كان معنا زملاء حصلوا على درجات متقدمة بالفرع العلمي كانت كفيلة بإدخالهم كليات الطب البشري والأسنان والهندسات، لكنهم اختاروا الصحافة عن قناعة ورغبة، وبعضهم اليوم من الصحفيين المعروفين بالبلد. بالمقابل تسرّب من القسم العشرات من الزملاء في نهاية السنة الأولى ولم يتابعوا، وعلمنا فيما بعد أنهم لا يحبون دراسة الصحافة التي دخلوها إرضاءً لذويهم.
بلا شك، هناك قصص كثيرة من هذا النوع، للأسف. ورغم الكوارث التي تحصل بحق أبنائنا الطلبة، لا يبدو أن الأهل يريدون التعلم من تجارب غيرهم، رغم العديد من الندوات التوعوية والإرشادية التي تؤكد على أهمية أن يختار الطالب ما يريده للدراسة، لأن حبه للتخصّص يجعله يبدع فيه.
عقدة مجتمعية!
يروي أحمد محمد، طالب في كلية الطب، أنه لا يحب هذه المهنة، وهو يدرس في الكلية نزولاً عند رغبة والده الذي يريده أن يصبح “طبيباً يرفع رأس العائلة”، حسب قول والده. ويتابع محمد دراسته على مضض: “أخشى أن أصبح طبيباً فاشلاً في المستقبل، رغم أن معدلي الدراسي جيد”.
وروى أحدهم أنه يشعر بالندم الشديد والألم لأنه أجبر ابنته الوحيدة على دراسة الصيدلة، وهي التي كانت ترغب بدراسة هندسة العمارة: “للأسف تصرفت بمبدأ الأمر والجبر، بعيداً عن العقل، والنتيجة كانت فشل ابنتي في دراستها، حيث تفكر بإعادة الثانوية أو تغيير الاختصاص بآخر يعوّض لها ما فاتها”!.
النظرة الدونية
لم تنجح وزارة التعليم العالي في توحيد النظرة للعلوم، ولم تعمل على إنصاف الخريجين فيها بتأمين مستقبلهم، فالنظرة ما زالت دونية لكل من يدرس في المعاهد التقانية، والكليات الأدبية، فعلى مدار العقود الماضية أغرقت “التعليم العالي” طلبة المعاهد بسيل من الوعود بتأمين فرص عمل لهم بعد التخرّج، وتحويل المعاهد لمراكز إنتاجية تعلم المهن والحرف المطلوبة بسوق العمل، غير أن كلّ تلك الوعود لم تتحقق، وبذلك بقيت المعاهد بنظر الطالب والمجتمع “مأوى للفاشلين”. واليوم، الفاقد التعليمي في المعاهد التقانية يتجاوز الـ 85%، وهو رقم بلا شك مرعب ويدقّ ناقوس الخطر، لكن هل من يسمع؟!.
قربة مثقوبة..
أستاذ جامعي متقاعد أمضى حياته الوظيفية مديراً لأكثر من معهد، كشف أنه تمّ تقديم عشرات المقترحات لإعادة الاعتبار للتعليم الفني والمهني، ليكون مرغوباً من الطلبة، لكن -حسب قوله: “كأننا كنّا ننفخ في قربة مثقوبة”، في إشارة لعدم استجابة الوزارة لتطوير هذا النوع من التعليم إلا ما ندر!!.
وبرأيه فإن هذا ما جعل الطلبة ينفرون من الدراسة في المعاهد، رغم أنها الأهم في بناء التنمية، مشيراً إلى أن 90% من نهضة الدول المتقدمة قامت على أكتاف خريجي التعليم الفني والمهني.
الفشل الدراسي
الدكتور ياسر بازو، دكتوراه علم نفس إداري وتنظيمي، أكد أن إجبار الأهل لأبنائهم على دراسة تخصّص لا يريدونه يشكل حملاً ثقيلاً عليهم طوال حياتهم الجامعية والعملية أيضاً، لأنه يترك تبعات سلبية كثيرة، أولها الفشل الدراسي والإحباط المستمر، والشعور بحالة العجز التام عن متابعة الدراسة، وحتى بالعمل بعد التخرج، عدا عن الاضطرابات التي تحصل وتظهر على شخصية الطالب، كالانطوائية والعنف.
ونصح الدكتور بازو الناجحين في الثانوية العامة بزيارة موقع البوابة التعليمية التفاعلية للاطلاع على اختبار الميول، حيث يوفر لهم فرصة التعرف على ميولهم المهنية المناسبة، وبذلك يتمكنون من اختيار التخصّص الجامعي المناسب وقدرتهم على المتابعة فيه بتفوق وتميز. وأشار بازو إلى أن الاختبار يحوي مجموعة من الأسئلة المدروسة باحترافية عالية ومبنية على أسس ونظريات عالمية وهي من نمط اختيار متعدّد، وما على الطالب إلا الإجابة بهدوء ودقة ليحصل على نتيجة مرضية.
“عينك على اختصاصك“
من المقرّر أن يطلق الاتحاد الوطني لطلبة سورية، بالتزامن مع المفاضلة الجامعية، مبادرة بعنوان “عينك على اختصاصك” في الجامعات السورية الحكومية (دمشق وحلب وتشرين والبعث وطرطوس وحماة والفرات)، وذلك بهدف تقديم الإرشاد والتعريف بالتخصصات الجامعية، ومساعدة الطلبة في اختيار اختصاصاتهم التي تناسب ميولهم ورغباتهم وتحقّق لهم فرص عمل بالمستقبل.
الاختيار الذاتي
بالمختصر.. دعوا أبناءكم يختارون التخصّص الذي يُرضي ميولهم ورغبتهم، لأنهم هم من سيعمل في المستقبل. وهذا الاختيار الذاتي هو الذي سيحدّد مدى النجاح. طبعاً، لا مانع في أن يمارس ذوو الطالب دوراً توعوياً للمفاضلة بين الأفضل من الاختصاصات الجامعية المطلوبة في سوق العمل، ولكن بشرط البعد عن الضغط والإجبار، بل بالحوار والنقاش الذي يحقّق مصلحة الطالب ويضمن له مستقبله.
غسان فطوم