ثقافةصحيفة البعث

“الطاحونة.. فلسفة الغبار” في ندوة

“العمر غبار ورحى الطاحونة لا تتوقف، ويا حرَّ آب اللّهاب، ويا وكف سقوف الطين، كلَّما أقبل شتاء يسَّاقط فوق رؤوسنا كالحصى، ومن تعبنا يطير النوم من عيوننا ولا نكاد نغفو حتى يطلع الصباح”، مقتطف من رواية “الطاحونة.. فلسفة الغبار” للكاتب حسين عبد الكريم، حيث أقام فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب ندوة لمناقشة الرواية أدارتها الإعلامية فاتن دعبول.

الطاحونة الريف والمدينة هي لبابة الرواية، وعن هذه الثنائية قال حسن حميد: تصرف الرواية جهدها كلَّه من أجل جلو ما في الريف من عيوب، وثغرات وأحزان وأمراض وخيبات وأشواق لأخبار طالعة قادمة. رواية “الطاحونة” تبني فضاءها المكاني في حيّز من أحياز الريف القريبة من البحر، تصرّح كثيراً بأن الأرض ذات الغلال هي أرض الساحل، أما شخوص الرواية فتمثّل حياة قرية صغيرة مفتوحة من جهاتها كلّها على القرى الأخرى، والمدرسة كتاب أدراج يأخذ أهله إلى العلو دائماً، أما أحداثها فهي خبريات وقصص وبكاء وأمنيات وأحلام أهل القرية صغاراً وكباراً، ولعلّ الخبر الأكثر بروزاً في القرية هو خبر الأرض إن غلّت أو أمحلت، وأضاف: الطاحونة ليست رمزاً علوقاً بالغلال فحسب، وإنما هي رمز علوق بالفرح والسعادة اللذين ينشدهما أهل القرية، فصوت الطاحونة هو هدير أصمّ يشبه تهاوي الصخور من علٍ، لكنه موسيقى أهل القرية التي يفضّلون سماعها. في “الطاحونة”، لا أزمنة لطفولة الناس وشبابهم وكهولتهم سوى أزمنة الحزن التي رسّبتها حالات العراك مع المحتلين، ولأن حياة الريف البادية على شكل تكرارات متعدّدة فإن القارئ يشعر أن بناء الرواية لا يخلو من تكرار قولات الشخوص والتشظيات والثغرات والفجوات، وكأن المبنى الروائي في “الطاحونة” أغوته حياة أهل الريف فجذبته تلك الأشياء.

نبع الفرح

طاحونة حسين عبد الكريم وحاراتها جموع غفيرة من الحطابين والحصادين والرعاة الحفاة ونايات ومواويل، وحاملات للجرار، قُبَلٌ غافية على شفاه الينابيع.. عن الرواية تحدث بديع صقور بالقول: سليمان هجر طاحونته، وصار الناس يذهبون إلى طاحونة أبي حامد القيّوم، قنديل وأبو علي شاهين والسينما، الأستاذ عارف الذاهب إلى الحرب، هند القتيلة وموال جابر: “دعيني يا قبر أحفر ترابك” وأبو هند ما فتئ يسأل كل من يلتقيه.

مدارس الحارات فتحت أبوابها وحسين عبد الكريم ما زال يحاول جمع آخر خيوط حكايات الشقاء، وينتظر على شرفات الصباح عشيقات مواويل جابر، وبوح نايه الحزين، علَّ الحبَّ يزهر في قلوب الحارات والمدن، لتصدح المواويل في أرجاء المساءات الموحشة، ويا جابر واصل غناءك وعزفك الجميل، ويا صبايا الحارات لا تتوقفن عن الرقص والغناء والعشق، وستبقى يا حسين نبعاً من الحبِّ والفرح والشروق.

فلسفة الغبار

إننا أمام رواية مختلفة عما سبق من روايات من حيث الشكل والمضمون، وعن هذا المختلف قال رياض طبرة: إنها رواية القاع السوري في مرحلة من مراحل تطوره والمعاناة الَّتي كان يعانيها هذا القاع بفعل فاعل غريب، وبعض من هذه المعاناة تواصل وهو مستمر على يد الغريب، حيث أن اللعين الجديد كثيراً ما تشابه مع اللعين القديم، الَّذي كان سبب الكثير من الأذى للبسطاء الفقراء المعدمين الذين لا حول لهم ولا قوة، وأضاف: نحن أمام رواية طويلة من حيث الشكل وأمام رواية تاريخية تؤرّخ على الأقل محلياً بمرمزات لا يعرفها إلا أبناء المنطقة (حرب الواحات)، وقد جعل الكاتب للشر رموزاً من أفراد وعائلات امتهنت الاعتداء على الضعفاء، ومثلما تفضح الرواية هؤلاء تلقي الضوء على الرجال الأشداء الذين يهبون لمناصرة الضعفاء، في محاولة لإظهار قيم النخوة والشهامة والمروءة، وهي قيم أصيلة في المجتمع السوري عامة وفي قاع هذا المجتمع على نحو خاص.

“الطاحونة” عنوان الرواية يحمل الرمز والحقيقة، فهي تطحن القمح لتحيله إلى دقيق وخبز، وفي الرمز تطحن الناس بصيرورة تاريخية، فكلهم مسحوق تحت رحاها، مغلوب على أمره، ولا أدري ما إذا قصد الكاتب سنوات بعينها تلك الَّتي مرّت على سورية. الغبار هنا ليس غبار الطاحونة وحده وما يمثله من ألم ومعاناة، بل يكاد يكون نتاج ربيع الخراب، أو حين الوحوش تهجم على حارة المراعي، أو حين تقطف الحارات آخر أوراق الدخان. أما الغبار عندي فهو غياب المعلمة هند تحسين سليم، التي ترمز لنهوض المجتمع وتقدّمه خطوات، وهي في الوقت نقطة الضوء في آخر النفق. والسؤال المشروع: هل الغبار هنا في الرواية رمز للاشيء يساوي أو يعني العدم أو العدمية، وبالتالي يمكن لنا أن نرمي الكاتب بتعميم اليأس بدلاً من إشاعة التفاؤل وجعله فلسفة حياة؟، لابدَّ أن الجواب في الرواية، حيث حرص الراوي على الغناء والجلسات الحلوة والسعي الدؤوب لجني المحصول والاستمتاع بالحلوى.

الصور

بدوره قال الكاتب ناظم مهنا: عالم حسين تتدفق فيه الوقائع والصور وذاكرته محملة، وروحه الحكائية الضاحكة في عناق مع الوجود وحب الناس، يظهر هذا في كتاباته السردية والشعرية أيضاً، يمتلك الكاتب طاقة أن يكون روائياً كبيراً.. يظهر هذا في قدرته الشفهية على التصوير والاختزال وفي روحه الساخرة، وفي سرده الشفهي للحكايات اليومية والعلاقات الودية. ومن يعرف حسين يعرف أنَّ له وجهة نظر فلسفية في الحياة تقوم على المرح والانطلاق والحب دون تعقيد، وأنا أؤيده في هذه الأبيقورية الجديدة الَّتي تقوم على مبدأ “خذ حصتك من الحياة كاملة”.

جُمان بركات