وجه أمي النبيل.. “ماما مثل العنب”!!
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
أُمّ البدايات
في طوكيو، ضمن مبنى متحف الشرق القديم، يتربع تمثال متوسط الحجم لما يعرف بـ “الإلهة الأم السورية” (5000 سنة قبل الميلاد)، يقول، بكل جلاء للحقائق، أنه كان هناك فلاح وفارس ومحارب وفنان وعازف ناي وشاعر وعاشق، كلهم مجمعون على أن لها فضل السبق والريادة لتكون سيدة الدعاء والمجد والرفعة، لتكون إلهة في مخيلتهم لبذخ هذه الأرض الخام. كلّهم أقروا نحت هذا التمثال، وقدسوا سرها، واحترموا كينونتها؛ لذلك حين كتب المستكشفون والمنقبون عن كنوز الأرض، ومريدو الحضارة، عن سورية أنها أم البدايات البكر، سيدة الهبات الحضارية، والوطن الأوحد لجميع البشر، لم يكن من المستغرب أن يقال أنه كان لهذه الأرض إلهة أولى، رقم فريد ومتفرد يقال له الإلهة الأم، أنثى تورث البنات كل جمال الرب، والذكور كل أصالة التراب.
وحاجة الحكاية إلى فكرة الأم، والقدوة الصالحة العامرة بالخير والتضحية والعطاء، حاجة ملحة وضرورية تكاد تكون بأهمية الحبكة نفسها، فللأم قدرة فريدة من نوعها على البذل دون طلب المقابل أبداً. قيل لنا يوماً أن الرحم لم يكن ليجد – مهما حاول البحث – كائناً آخر خيراً من الأم ليستقر فيه، ويعطي لنا هذا الدفق الدموي النبيل من البذل والصحة والغذاء والرعاية والإحاطة بحب.
سورية الأم
في كل محفل أو مسابقة أو نشاط يُطلب مني فيه تحديد موضوع للأطفال ليتم رسمه، أختار واحدة من ثلاث: الأم – الشجرة – سورية. ولو أنك جمعتها بلا فواصل لبات العنوان في كل وقت “الأم الشجرة سورية”.. منظومة، لو تم اعتمادها كنقاط بحث وعمل، لأنتجنا جميعاً – كتاباً وفنانين ومشتغلين في ثقافة الطفل – الكثير من المنتجات التي تعزز الثقافة السورية الأصيلة، والتي ستدعم بشكل كبير مكتبته الصغيرة، ليستبدل المنتجات الغريبة، التي تغزو مكتبته وعقله، بهذه المنتجات المحلية الصنع والمغرقة بسوريتها حتى النخاع.
ملكة الإلهام، نبع الحنان، سرة الكون، ومنتهى الآمال، نبض الروح لنا جميعاً.. تلك التي مهما قطعنا عنها مسافات الزمن والجغرافية، يبقى أبداً تعلقنا بها سراً عظيماً من أسرار وجودنا ودأبنا وشغفنا في هذه الحياة.
– ذكرت في لقاء صحفي عشية تقليدي ميدالية جائزة الدولة التشجيعية، أنني، لأول مرة، ألاحظ مرور الزمن عبر شريط جميل من الذكريات، وأنا أنحني لأقلد أمي تلكم الميدالية، وهي التي أمضت عمرها كله تنحني لتقبل جبيني، وتضع حقيبتي على ظهري، ولتربط لي خيوط حذائي صغيراً، ولتهدهدني لأنام وتسامرني حتى انجلاء حمى المرض.. في لحظتها فقط، عرفت معنى أن نرد لها عناء قبلة واحدة، كان يخفق لها قلبها وهي تطبعها على خدودنا!
– في كتاب (البطل بألف وجه)، لجوزيف كامبل، هناك فقرة مهمة تقول: “التوحد السري مع ملكة العالم الإلهية، إنما يعني انتصار الحياة الشامل للبطل: الأنثى هي الحياة، والبطل هو الذي يتعرف إليها ويتملكها، وتلك الاختبارات التي تسبق تجربته الأسمى والنهائية نحوها، وكذلك فعله، إنما هي رموز لنقاط أزمة المعرفة، تلك التي من خلالها تتسع آفاق الوعي، ويصنع، من أجل تحمل الامتلاك الكامل للأم”.
الملهمة الوحيدة
يتابع كامبل عن المرأة الأنثى الأم: “إن رمز السيطرة التي تُنتزع من العدو، ورمز الحرية التي تكتسب من شرور المارد والعفريت والغول، ومن طاقة الحياة التي تحرر من قبضة الشرير، إنما هو امرأة، سواء أكانت الآن أميرة الصراعات التي لا تحصى ضد الغول، الخطيبة التي اختطفت من الأب الغيور، أو العذراء التي أنقذت من بين يدي عاشق جاحد للإله. إنها قطعة من البطل ذاته، فإذا كانت مهمته حكم العالم فهي إذن العالم، وإذا كان هو المحارب فلا بد أن تكون هي المجد. إنها المثل الأعلى لمصيره الذي عليه أن يحرره من سجن الظروف القاهرة، وحيثما يتجاهل مصيره، ويسمح بأن يقاد إلى الضلال من قبل اعتبارات خاطئة، فإنه لا يستطيع أن يصبح سيداً عبر مشقة معاندة الصعوبات”.
الأم، هنا، هي الغاية، والطريق لتلكم الغاية.. الأم، هنا، هي منتهى المبرة لاكتساب رضاها.. الأم هي الجائزة الربانية الأعلى من كل القيم.
العودة لأدب الطفولة وفنها
في كل الحكايات، هناك أم: أم للبطل، وأم للبطلة، أم للأميرة المسجونة، وأم للطبيعة، وأم الأشجار وأم للعقار المداوي، وأم لينبوع يصب الخير من أعلى الجبل نحو السفوح المنحدرة، الخلاصة العملية للقول الفصل أننا في حكايات الأطفال نحتاج دائماً لقيمة القدوة العالية التي لا يمكن، أبداً، أن تجد ممثلاً لها خيراً من الأم.
شعر الطفل، ومن ثم تحويله إلى أغان عن الأم – كلنا متعلقون بمشهدية عالية المستوى للفنان دريد لحام في دور غوار الطوشة، وهو يغني خالدته الرقيقة “يامو.. يا ست الحبايب”، فلماذا لا يكون لأطفالنا أغانيهم الخاصة ذات الكلمات العالية والموسيقى العذبة والأداء الجميل عنها؟
أمي العنب
في تجربة عملية، طلبت من عبير عمران، مديرة مركز بيت للتعليم المبكر وأنشطة الأطفال، أن تطرح السؤال التالي على بعض الأطفال في النشاط الدائم الذي تقيمه في المركز:
– ماذا تعني كلمة أم؟
فجاءت الإجابات مغرقة في البراءة والنبل والطيبة، أضع بين أيديكم بعضاً منها، لتحكم قلوبكم وأرواحكم على تلك الفطرة الخام لأطفالنا.
الطفل هشام بدر (9 سنوات): الأم هي الروح والقلب والحنان والحضن الدافئ والمعلمة الرائعة.
الطفلة شام الدمني (7 سنوات): أمي تحبني، تلعب معي، تهتم بي، تشجعني على الرسم والقراءة والكتابة، نقضي وقتا ممتعا قبل النوم.
الطفل زين الحداد (10 سنوات): أمي الحنان، والعطاء الذي لاينتهي، أمي أشعر بالفخر تجاهك، وكم أفرح بوجودك، كم تحبني أمي.. أمي كل الدنيا!
زينة صارم (9 سنوات): أمي حياتي وعمري، لولاها لا أقدر أن أعيش، لا معنى للحياة دون وجود أمي.
ليا صارم (7 سنوات): أمي تجعل الحياة جميلة، تشجعني، وتحميني، وتزيل الخوف من داخلي.
لونا طراف (6 سنوات): ماما هي البوسة، والضمة، واللطافة، والحب.
تيم طراف (5 سنوات): ماما هي الحلوة، الطيبة.. ماما مثل العنب.
ألما عثمان (9 سنوات): تعنيلي أُمي الكثير، تساعدني على حل دروسي، تساعدني على حل مشاكلي الصّعبة، تساعدني عندما أكون مريضة، وألجأ إلى حضنها الدافئ.
….
أمي السورية، تلك التي تحت عريشتها الوارفة الظل، يجب أن تتكئ ثقافة أطفالنا في سورية، لتورق، وتزهر، وتثمر ما يليق بمستقبلهم الواعد.