يوميات “الأكشن”!؟
د. نهلة عيسى
أظن، وظني بنكهة اليقين، أن من يتابعون مجريات حياتنا اليومية، يخالون أنفسهم في رواية من روايات “المغامرون الخمسة”، وروايات “المغامرون الخمسة” لمن لا يعرفها، هي سلسلة كتب جيب عربية للمراهقين واليافعين وراكبي العربة الأخيرة في قطار “الأكشن” على الطريقة العربية، كانت تصدر في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وكل قصصها كانت إعادة تدوير وتقييف لقصص “شرلوك هولمز وتابعه د. واطسن”، والأبطال الصغار أصحاب المكان والزمان يجولون في عالم سرمدي ليس فيه أحد يقول لهم فيه: “ثلث الثلاثة كام”!؟ ويتظاهر كل من في عالمهم، بما فيهم رجال الشرطة والقانون، بأنهم لم يسمعوا ولم يروا، ولم يصلوا إلى حقيقة لولا هؤلاء الصغار، لدرجة أن المرء يتمنى لو كان واحداً منهم، حيث لا هيبة في واقعنا المعاش سوى للمال، في وقت تحترق فيه أوطاننا بسبب المال، ويكرّس من يمتلكونه أبطالاً يحتذون!؟
والغريب أن كل أفعالنا اليومية الرسمية والشعبية شبيهة بسرديات “المغامرون الخمسة”، ارتجالية، بلا منطق، ولا مرجعية، قافزة فوق واقع فقدت فيه كل الأشياء قدسيتها، وحيث يجب أن يكون القانون رغم كل العوار هيبة، والمارون عزوة وظهراً، وسيفاً ضد الغدر، دون السقوط في فخ تسطيح الأشياء، واختزالها في عبارات متناقضة، أبيض وأسود، مرعب وآمن، طيب وشرير، قبيح وجميل، لأن القضية أكبر من ذلك بكثير، إنها الحرب.. حيث لا مقدس، ولا حرمة، وحيث الفاجر والسارق والمارق سادة الرصيف والطريق، يروحون ويجيئون بين الناس جامعي اللقمة من الندرة، بصفاقة العارف أنه مهما فعل لن يحاسبه أحد، فالحق يحتاج إلى ساقين، وكل من في الشارع مُقعد!.
أراقب وقائع أيامنا، ودموعي حصى، وعلى اللسان مايشبه العتب: آه يا بلد، حتى الوجع فيك يسرق؟ فيردّ علي الصدى، وكل شيء يتابع الهرولة بسرعة لا تخلو من الوقاحة في المدينة، وأضواء المرور تبدّل شاراتها بسرعة الموت، فتزداد أنفاسي ضيقاً، وتنتابني رغبة بالهرب من سباق الفئران، فأبحث عن شيء أليف حنون أحدق فيه، فتداهمني البرامج الإعلانية الغثة في مدينة تلتهمني، وتبصقني كل مساء على سريري حطام بشر، فأصرخ: طوبى للجائعين فيك ياوطن!!.
أدير الرأس عن الواقع والشاشة، وأشعل سيجارة ساخرة من قوانين مكافحة التدخين، فرضها العالم المتحضّر، في زمن نحن فيه أعقاب سجائر في منفضة هذا العالم المتحضّر، عالم الكوكاكولا والنيون والبيتزا، والبلاستيك والسيليكون، والبشر يوقتون إيقاعهم اليومي وفق سعر الدولار، يهبط الدولار، وتبقى مشانق اللقمة في الرقبة معلّقة، مثل شجرة الميلاد، جميلة، بهية، مبهرجة، بغض النظر عن أن المسيح في النهاية صُلب! وأتوجّع، ليس ثمة ما هو أكثر غروراً وزيفاً من الفرح في زمن تشنق فيه جثة المقتول بحجة الأمن، والقاتل طليق، ندٌ، وجليس مفاوضات، على طاولات العالم الكبير، والتلفاز ينهمر فيه الرصاص عبر الأخبار والمسلسلات البوليسية، فهل من حاجز هناك أختبئ خلفه غير المغامرين الخمسة؟!.
الشارع فظ، والشاشات دمار، وكأنه لا صباح ولا مساء، والبيوت دمار، والطرق دمار، وكلنا “دونكيشوت” نقاتل طواحين الهواء الوهمية، وكلنا في خطر، وأول الأخطار: خطر أننا لا نعرف ماذا نريد، وأننا لا نرسم الغد، ولا ندري إلى أين المآل!؟ وأخلاق الحرب سلطانة، والكل في “مزرعته”، زعيم، وبطل، وسيد مطاع، في مدينة الأحلام المكسورة، حيث يصادق المرء، أنياب كلاب المزرعة!!.
الأيام دموع، بل ربما عيناي، والهاتف كل لحظة يرن، وعلي أن أراجع الأسماء على الشاشة، رغم معرفتي أنها طلبات تلاحق طلبات، والناس على وجع وحق، وأنا على تعب وعجز، وحلول المغامرين الخمسة “تختخ ومحب ونوسة …الخ”، لا تنفع كخريطة طريق، رغم أنها في التطبيق، هي على ما يبدو الطريق الوحيد الذي تفتق عنه ذهن من يجب أن يرسموا الطريق، فاختلط البنزين بالزيت والخبز والتعليم، ووصلت رائحة تعرّقنا في الطوابير إلى كل التفاصيل، فسرنا في الشوارع نغالب على وجوهنا معالم القرف!؟.