“سولي” فيلم ينتصر للحدس الإنساني
تُقلع طائرة الركاب ذات الرقم 1954 وعلى متنها 155 راكباً، وحين تصبح في الجو، يظهر من العدم سرب من الطيور، يصطدم بها ويعطّل محركاتها تعطيلاً تاماً. قائد الطائرة الكابتن “تشيزليس ولنبيرجر” والذي قضى أكثر من 40 عاماً في مزاولة مهنة الطيران، يقرّر الهبوط بها في نهر “هدسون” بعد أن قدّر بحدسه الشخصي، أن كل الخيارات التي يقدّمها برج المراقبة لن تستطيع إنقاذ الطائرة بمن فيها، من تحطّم محقّق فوق المدينة المكتظة بالناس، يتخذ الطيار قراره دون أي تردّد، وفعلاً يهبط بالطائرة في النهر، ينجو الجميع لكن التحقيقات حول الاحتمالات التي كانت أمام كابتن الطائرة “سولي” للذهاب بها نحو أقرب مدرج متوفر للهبوط، تبدأ بالتشكيك في رواية الكابتن ومساعده، لتنتهي بانتصار أكيد للحدس الإنساني على الأنظمة التشغيلية للطائرة ومعطياتها، والتي تفيد بأن أحد المحركين لم يكن مدمراً، وكان بإمكان الطيار الهبوط بالطائرة في أحد المطارات القريبة.
هذه هي القصة الواقعية التي جرت أحداثها عام 2009، والتي كان زمنها مذ أقلعت الطائرة وحتى هبطت في النهر (208) ثانية، قام المخرج الشهير “كلِينت إيستُوود” بعد سبع سنوات بتحويلها إلى فيلم “دراما سيرة ذاتية” حمل اسم “سولي”، وهو اسم الطيار قائد الرحلة، مُسنداً دور البطولة للممثل العبقري “توم هانكس”.
المشاهد إذن أمام عمل سينمائي رفيع المستوى، فعندما يجتمع هانكس وإيستُوود في عمل سينمائي، فهذا يعني فرجة سينمائية متحقّقة فيها كل عناصر الإمتاع والإثارة والإشباع الدرامي للقصة، رغم أن أفلام السيرة الذاتية ليست هي المفضّلة عند الجمهور بسبب نهايتها المعروفة مسبقاً، لكن المخرج عرف كيف يوجّه دفة الفيلم ليفوز بقلوب الجمهور والمهرجانات السينمائية العالمية على حدّ سواء، إن كان في طريقة تقديم الفيلم التي جاءت بطريقة “الفلاش باك”، أو من وجهات نظر مختلفة، تارة من ذاكرة الطيار ومساعده، ومن معطيات الصندوق الأسود تارة أخرى، وفي كل مرة يُعاد فيها سرد الواقعة حسب أحد المعطيات التي يقدّمها التحقيق مع الطيار ومساعده، تبدو مختلفة في بدايتها، لكنها تصبح واحدة ومنسجمة تماماً فيما بعد، وفي كل مرة تُستعاد فيها الحادثة، يتمّ التأكيد على صوابية الخيار الذي اتخذه قائد الرحلة “سولي”، وما كان لفعله من ردود فعل إيجابية بين الناس، سواء من ركاب الطائرة الذين نجوا جميعاً، أو من المجتمع الذي يعتبر ما فعله عملاً بطولياً يستحق الاحترام والتقدير، وهذا كان من الجوانب التي حرص الفيلم على تظهيرها درامياً وفي مشاهد مختلفة من الفيلم، الذي جاءت مدته ساعة و36 دقيقة.
الاشتغال أيضاً على المشاهد بعناية بالغة في تفاصيلها، والتي جاءت رشيقة مترابطة، كان من عوامل نجاحه، فالفيلم تبدأ أحداثه بما بعد الحادثة ومن ثم بعد أن يعرض ردّة فعل الإعلام والناس حول البطل، يعرض الحادثة التي مرّت عليه ومن ثم يستكمل السرد الذي عرضه في البداية، وهذا الأسلوب السردي كان من الخيارات الذكية للمخرج، الذي استطاع شدّ الجمهور للفيلم منذ بدايته وحتى النهاية، خاصة وأن المشاهد جاءت مُحكمة السبك القصصي، فكل مشهد حمل عناصر نجاحه، إن كان في تطبيقه النهج الأرسطي للقص (بداية- ذروة- نهاية) أو في طبيعة مشاعر البطل التي تبدأ في حالة معينة وتنتهي في حالة معاكسة لها، أيضاً المزاج العام للفيلم، والذي تتفوّق فيه المشاعر الإنسانية على ما عداها من مشاعر سلبية، حرص المخرج أن يعمل على تظهيرها من خلال لجنة التحقيق في سلامة الطيران -والتي تأخذ هنا دور “الشرير”، فلا بطولة بلا مواجهة مع الشر بمختلف أشكاله- التي قادت حملة هجومية على الطيار، في إثارة الأسئلة المشكّكة ومنها: هل كان من الضروري أن يعرّض سولي حياة 155 راكباً على متن الطائرة للخطر، وهل كان الهبوط في نهر هدسون هو الخيار المناسب، أم كانت هناك خيارات أخرى؟، الأمر الذي شكّل ضغوطاً كبيرة على سولي، وجعل لياليه مليئة بالكوابيس والتساؤلات، أيضاً التشكيك بدوافع ما فعله الطيار من عمل بطولي، والذي قامت به بعض الوسائل الإعلامية على حساب شجاعة الرجل وبطولته تلك التي لم يشعر بها، -البطل في الدراما لا يعلم عن نفسه إن كان كذلك- فهو كما جاء على لسانه في التحقيق: “أنا لست بطلاً، كنت أقوم بواجبي المهني”، وهنا تركزت تحديات البطولة عند “سولي” على عنصرين، الأول أن يستردّ ثقته بنفسه وبصحة قراراته واستنتاجاته لحظات الحادثة، والثاني أن يثبت للكل أن ما فعله كان أفضل المُتاح فعلاً، وهنا تأتي النقطة الأهم في القصة، والتي عمل المخرج على تمريرها بسلاسة ودون أي اصطناع، وهي أنه مهما بلغت التقنيات الحديثة من تطور وتقدّم، فإنها لن تكون قادرة على مواجهة الحدس الإنساني وثقة الإنسان بصوابية الخيارات المصيرية التي يتخذها، بينما تفترض التقنيات خيارات مختلفة ومعاكسة، فلو قام الطيار بالذهاب إلى حيث تمّ توجيهه، لكانت الكارثة واقعة لا محالة، ليس فقط بالنسبة لمن على متن الطائرة، بل على المنطقة التي ستقع فيها، وما سوف تتسبّب به من دمار للبشر والحجر، وهذه كانت من الهواجس المؤكدة بالنسبة لـ سولي، فقد أدرك أنه ما من منجى بأقل الخسائر الممكنة، إلا في الخيار الذي اتخذه، وهذا ما حدث.
ليس بالجديد على الممثل الأهم ربما في السينما “توم هانكس” أن يكون أداؤه محطّ الأنظار في الفيلم، وهذا ما يدركه المخرج المحنّك في اختياره بطل فيلمه، فالأداء البديع الذي قدّمه هانكس، جاءت ردود الأفعال عليه وعلى مختلف المستويات، بكونه أداء رفيعاً يستحق الأوسكار.
تمّام علي بركات