دراساتصحيفة البعث

“لا تتوغلوا في حرب برية فوق أرض آسيوية”

د. رحيم هادي الشمخي

كاتب عراقي 

رغم القوة التي تشبه السحر والتي تتميز بها صواريخ «كروز» والقنابل الذكية التي ترى وتفكر وتعرف طريقها جيداً إلى الأهداف التي تتمتع بها طائرات القتال الحديثة مثل الـ(ف-117) والـ(ف-15) والـ(ف-16) وقاذفات القنابل من طراز الشبح، والـ(ب1) وغيرها، المتطورة والحديثة، رغم كل ذلك فإن الأسلحة الجوية التي تعمل (من فوق الأفق) أو القوات (أحادية البعد) لا تستطيع وحدها أن تحسم القتال وتحقق الهدف الاستراتيجي المنشود، هذا إذا كانت هناك أي أهداف للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.

ويعرف الأمريكيون جيداً أنه خلال السنوات الطويلة والمريرة في حرب فيتنام وأفغانستان والعراق والعدوان على سورية، عندما لجؤوا إلى مبدأ قياس قوة القتال وضراوته بعدد الأطنان من القنابل التي يلقونها فوق رؤوس الناس، وعدد الجثث التي يحصونها بعد هذا القصف الجوي الذي استمر سنوات، يعرف الأمريكيون وحلفاؤهم جيداً أن ذلك لم يؤدِّ إلى تحقيق الهدف من القتال، وأن كل ما استطاع تحقيقه في أفضل الأحوال هو قتل الأبرياء وحرق الزرع والضرع والحجر، وتجويع الشعوب، وهذا ما تريده أمريكا، حسب مفهومها، وبتكرار هذا السيناريو الأمريكي في العراق وسورية، كان لابدّ بالطبع من أن تنتهي النتائج إلى نفس ما انتهت إليه في فيتنام بالنسبة للجانب الأمريكي، وهو الفشل في تحقيق الأهداف من هذا القتال، إذا ما كانت هناك أهداف مرسومة ومدروسة، لأننا حتى الآن لم نسمع، ولا نستطيع أن نفهم ماهية هذه الأهداف. فالحرب التي شنّتها الولايات المتحدة على شعوب المنطقة ومنها العراق وسورية كانت حرباً خاسرة من دون أهداف معروفة وواضحة، وإنما عرض للقوة الغاشمة لتدمير الأرض والإنسان العربي من أجل أن تبقى «إسرائيل» هي السيد الذي يتحكم بأمور العرب، وما نشاهده اليوم من هرولة بعض الحكام العرب مثل الإمارات والبحرين نحو الكيان الصهيوني إنما يعبّر عن جذر المسألة الحقيقي أن أمريكا استطاعت أن تحقق الحلم الصهيوني بالقوة المفرطة.

ومن ثم فإن الإستراتيجية الأمريكية العسكرية منذ حرب العراق وحتى يومنا هذا أخذت تتأرجح بين مبادئ متباينة، أحد أطرافها هو إما الشلل الكامل وإما الردع الذاتي الذي تجلّى خلال حقبة (بوش الابن) و(أوباما) و(ترامب)، وإما الإخفاق والتخبط والفشل، فما زالت آثاره باقية وممتدة حتى يومنا هذا، وستظل الآثار سائدة لفترات في المستقبل، وفي هذا الإطار كانت الإستراتيجية الأمريكية ترى أنه من أهم مقومات القوة العظمى، وأهم ما تحتاجه لإضفاء المصداقية على إستراتيجيتها للأمن القومي، هو أن تكون هذه القوة قادرة على خوض حربين اقليميتين رئيستين في وقت واحد، ولكن بسبب عقدة (فيتنام وأفغانستان والعراق) وتجربتها المريرة في هذه الدول لجأ الكونغرس الأمريكي إلى الاكتفاء بالقدرة على خوض حرب رئيسة، واللافت أن السياسة الأمريكية تعتمد بالدرجة الأولى على التكنولوجيا والبدع الإلكترونية الشبيهة بألعاب (الفيديو غيم) التي يمارسها الشباب والأطفال في العصر الحديث، أما الشعوب فهي تقاوم بضراوة من أجل البقاء في أوطانها من أجل الحرية والاستقلال.

إن الولايات المتحدة الأمريكية برغم قوتها الأسطورية مازالت تعاني حتى يومنا هذا من عقدة (فيتنام، أفغانستان، العراق، سورية) وكل الحروب الجادة في جنوب شرق آسيا، فإنه مازال يتحكم في عقلية القادة الأمريكيين وصانعي القرار هناك تلك المقولة التي أطلقها الجنرال (مارك آرثر) عندما قال: «لا تتوغلوا في حرب برية فوق أرض آسيوية»، وإلى يومنا هذا فإن مقابر (آرلنجتون) بالقرب من واشنطن والتي تضم رفات أكثر من خمسين ألفاً من الشباب الأمريكي لقوا حتفهم في حرب فيتنام و291 ألف جندي أمريكي لقوا حتفهم في حرب العراق، هذه المقابر وهذا العدد من القتلى لعبت دوراً مهماً في تغيير المفاهيم العسكرية الأمريكية حتى لو كان ذلك على حساب مبدأ الحسم الذي يأتي في مقدمة مبادئ القتال.