في محراب تشرين التحرير
بسام هاشم
للأسف، وبشيء من الشعور بالألم والمرارة، تمر ذكرى حرب تشرين التحريرية المجيدة ونحن معنيون بالتأمل واستخلاص الدروس والعبر أكثر مما نحن معنيون بالاحتفال ونصب أقواس النصر. فمن حلال مقارنة بسيطة تمتد على مساحة 47 عاماً، وهي قصيرة بمنطق التاريخ، ولا تتجاوز بحدودها المعطيات الزمنية لثلاثة أو أربعة أجيال متتالية عادة ما تلتقي معاً في دورة حياتية واحدة، سوف نجد كيف تحول العرب من داعمين للحرب على إسرائيل المحتلة، ومؤيدين لاسترجاع الحقوق العربية المغتصبة، ومشاركين في الجهد العسكري والسياسي الذي يصب في هدف تحرير الأرض والمقدسات، إلى متآمرين على صانع النصر وصاحب القضية، ومتنطعين للحديث باسمه، والتفاوض بحقوقه، ومشاركين في مشاريع تدميره وإلغائه وجودياً، وكل ذلك في إطار محاولات غير مضمونة للفوز برضى الأمريكيين والصهاينة، وهي محاولات انتهت على كل حال إلى انقسامات عربية عمودية، تحولت بدورها إلى حروب دموية، وإلى حالة من التآكل العربي المخيف، وإلى نوع من الخدمة المجانية، والخاسرة سلفاً، لأكثر ثلاثة “قوادين” سياسيين ضعفاً وانحطاطاً ومكروهية وإشكالية في التاريخ القصير للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وتركيا، والمقصود بالتأكيد كل من ترامب ونتنياهو وأردوغان.
وإذا كان من المؤسف أن “كبار” “القادة” والمسؤولين في الدول العربية، وفي ممالك وإمارات ومشيخات الخليج خاصة، قد ابتدعوا لأنفسهم نظريات واستراتيجيات سياسية “فوق عادية” لن تقودهم، ولن تقود شعوبهم معهم، إلا إلا المزيد من الفشل والخيبة وضياع المستقبل، وهو ما نعاينه في الواقع اليومي خلال هذه المرحلة، فإنه ليبعث على الحنق والغضب والشعور بالمرارة أن نرى كيف لهذه الأمة العظيمة، والباسلة، والمجيدة، والخالدة، أن تُطعن في كبريائها، وتُغدر في تطلعاتها، وتستهان في نظرتها إلى دورها ومكانتها، بل وتُستهدف في صميمها، عندما تجتمع وتتحالف الأنظمة والسياسات المتعارضة والمتصارعة، عربياً وإقليمياً وعالمياً، في مشروع تدمير سورية الدولة والشعب، على أمل إزالة العقبة الأخيرة أمام القضاء على كل ما هو عربي، حقوقاً ومستقبلاً وهوية.
إنه لمن المروّع أن نلقي نظرة – ولو خاطفة – على العقدين الأولين من هذا القرن، لنلمس كيف تم تدمير العراق، والشروع بإزالة سورية من الخارطة، وكيف تم كيّ الوعي القومي بحيث بات كثيرون يتحدثون عن عبء مواجهة إسرائيل والتمسك بالقضية الفلسطينية، بل وكيف يتم القضاء على الإسلام العربي الحجازي المحمدي لحساب إسلام وهابية الدرعية البترودولارية، أو إسلام العثمنة الإخوانية الأطلسية، وكيف يتم القضاء على المسيحية المشرقية، لإفراغ العالم من نواته الصلبة الثقافية والروحية والأخلاقية، والتي عملت لآلاف السنين كحارس للقيم العالمية، ومهد للحضارة الإنسانية، والمستقبل لها.
ولكن مما يبعث على الأمل والثقة، بالمقابل، أن سورية المعجزة قاومت وصمدت، وأن القوى الاستعمارية لم تتمكن من تحقيق أهدافها، بل وانكسرت، وأن الأنظمة التابعة والعميلة انكفأت، بل وباتت مشغولة بالتداعيات الداخلية لحربها وتآمرها على سورية، ولن نتحدث عن خسارتها لأرصدتها السياسية
والمعنوية وتراجع دورها، وحتى زواله نهائياً، إن لم يكن تحوله إلى قوة شريرة وهدامة تعكس واقعاً من الإفلاس الاستراتيجي والتفكير الانتقامي الخطر والمبيت، والذي لن ينتهي إلا مرتداً على الذات.
تبقى ذكرى السادس من تشرين معجونة بالدماء الزكية وعابقة برائحة المجد والانتصار؛ وتبقى حرب العاشر من رمضان الجهاداً الحقيقي أعاد للعروبة معناها الأصيل وأرجع للإسلام كل ما يستحضره من إيمان صحيح وعقيدة سليمة. وبهذه الأصالة خاضت سورية حرب الدفاع عن نفسها ضد التفتيت، وعن الأمة ضد حملات التشويه والتحريف المنظم التي حاولت النيل من تاريخها وعقيدتها للوصول إلى إبادتها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.. لقد خاضت سورية الحرب ضد الإرهاب ومحاولات الاحتواء والإلغاء استناداً إلى وعيها بمكانتها ومكانة أمتها، ودفاعاً عن نفسها وشعبها وعن أمتها العربية ودورها.. وسواء استوعب الآخرون دروس التاريخ، أم لم يستوعبوا، وسواء كبرت التحديات أم تضاءلت، فإن درب الانتصار واحد، والطريق إلى المستقبل لا يتيه بأصحابه.. لقد شاء القدر أن تكون سورية في هذا الموقع الجغرافي وعلى هذه التقاطعات الثقافية وفي تلك الإرادة التي تلخص كرامة البشرية.. ولن تكون غير ذلك أبداً، ومن أصر على صناعة انتصار تشرين لن تكون مواعيده إلا على الانتصارات.