حرب تشرين.. قرار تاريخي وتغيير في قواعد الصراع العربي الصهيوني
“لسنا هواة قتل وتدمير، وإنما ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير.. لسنا معتدين ولم نكن قط معتدين، ولكننا كنّا وما نزال ندفع عن أنفسنا العدوان.. نحن لا نريد الموت لأحد، وإنما ندفع الموت عن شعبنا.. إننا نعشق الحرية ونريدها لنا ولغيرنا، وندافع اليوم كي ينعم شعبنا بالحرية.. نحن دعاة سلام ونعمل من أجل السلام لشعبنا ولكل شعوب العالم، وندافع اليوم من أجل أن نعيش بسلام”.. بهذه العبارات الصادقة خاطب القائد الخالد جنوده وكل شعوب العالم وهو على ثقة بأن قراره هذا على حق، لأن قضية شعبه قضية حق، ليأتي الانتصار بعد الهزائم والأمل بعد اليأس والارتواء بعد الظمأ. كل هذه المعاني والمشاعر جسّدتها حرب تشرين التحريرية التي كانت انتصاراً على الذات، فتحت الأبواب مشرعة لانتصارات لاحقة أنهت حقبة من الهزائم والتراجعات. حرب تشرين التحريرية باختصار هي التي أنقذت الأمة العربية من خطر الانقراض، فبعد سلسلة الهزائم المتتابعة أمام جيش الاحتلال الإسرائيلي، المدعوم من الدول الغربية، تبيّن أن هذا الجيش، الذي قيل إنه لا يقهر، ما هو إلا هيكل كرتوني سرعان ما انهار عندما أطلق الجيشان السوري والمصري الطلقة الأولى.
قرار تاريخي
وبالعودة إلى حرب تشرين التحريرية التي هزمت إسرائيل وأسقطت أسطورة جيش عدوانها وغيّرت معادلات المنطقة، يمكن القول إن هذه الحرب، والنجاحات المتتالية التي تحقّقت في اختراق صفوف العدو الإسرائيلي منذ الساعات الأولى، أثبتت أن تحرير كامل الأراضي العربية المحتلة يلوح بالأفق، وأن النصر بات قريباً جداً قبل أن يسارع الغرب كعادته بالتدخل لإنقاذ العدو وإيقاف القتال على إحدى الجبهتين، فكان له ما أراد على الجبهة المصرية، ولم يكن أمام سورية التي نجحت في توحيد كلمة غالبية العرب وإقناعهم آنذاك بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، بعد إيقاف القتال على الجبهة المصرية وزيادة ضغط العدو على جبهة الجولان، سوى الاستمرار ومتابعة القتال والتحرير عبر حرب استنزاف استطاع فيها بواسل الجيش العربي السوري تسطير أروع ملاحم البطولة والفداء، لتكون النتيجة تحرير مدينة القنيطرة، ويتحوّل شهر تشرين إلى عنوان للمجد والفخار ونبراس لتجديد مشاعر العزة الوطنية بالانتصار وتمهيد الطريق لترويج ثقافة المقاومة والتحرير في المنطقة.
معارك تشرين
يحتاج الحديث عن المجريات التفصيلية لحرب تشرين للكثير من الكلام، ولعلّ أهم ما ميّز هذه الحرب أنها لم تكن مجرد معركة عسكرية لتحرير الأرض بقدر ما كانت نقطة تحوّل كبرى في تاريخ الأمة العربية حقّق فيها الجيشان السوري والمصري الأهداف الاستراتيجية المرجوة من وراء المباغتة العسكرية للعدو الإسرائيلي، حيث توغلت القوات المصرية شرق قناة السويس، فيما دخلت القوات السورية عمق هضبة الجولان، وأفضت هذه الحرب المجيدة إلى تحرير مدينة القنيطرة وأجزاء من مرتفعات الجولان، حيث رفع القائد الخالد العلم العربي السوري في 26 تشرين الأول عام 1974، فيما استردت مصر قناة السويس وأجزاء من سيناء، ناهيك عن أن هذه الحرب أكدت أن الكيان الصهيوني غير قادر على حماية نفسه لولا الدعم الغربي والأمريكي له.
خسائر العدو
تقدّر الخسائر الإسرائيلية في حرب تشرين بـ 600 دبابة وناقلة جند، و2000 قتيل و2452 جريحاً و65 أسيراً و88 طائرة. أما الانعكاسات التي طالت الاقتصاد الإسرائيلي فقد استمرت لسنوات طويلة قبل أن يستطيع الاقتصاد الإسرائيلي تحقيق معدلات نمو عادية، إذ اعترفت إسرائيل ذاتها وعبر صحافتها وعلى لسان وزير المالية الإسرائيلي آنذاك بأن الناتج الإجمالي قد تباطأ إلى حدّ كبير ووصل إلى أقل من 2.5% بين الأعوام 1973 – 1975، وذلك لجملة أسباب تتعلّق بانخفاض الصادرات وتدني نسبة الاستثمار والتبرعات والعجز التجاري والعجز في ميزان المدفوعات والديون وغير ذلك. لقد ازدادت الديون حتى بلغت عام 1975 نحو ستة مليارات دولار، ففي عام 1974 أعلن وزير المالية الإسرائيلي آنذاك أن 15 – 20 ألف إسرائيلي غادروا في إطار الهجرة المعاكسة، ولمواجهة هذه النتائج اضطرت الحكومة الإسرائيلية لاتخاذ تدابير قاسية، منها: زيادة الضرائب وزيادة حوافز التصدير وتقليص أعمال البناء وزيادة قروض التنمية، لكن هذه التدابير لم تكن كافية، لذا قفزت الهبات الأمريكية من 60 مليون دولار عام 1972، إلى مليار دولار أواخر حرب تشرين، وإلى نحو ملياري دولار بدءاً من 1978.
صفحة مشرقة
لم يكن نصر تشرين محض مصادفة، فحرب تشرين التحريرية كانت ولا زالت صفحة مشرقة في تاريخ أمتنا العربية وحدثاً فريداً ونقطة تحوّل عظمى في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، وستبقى الأهداف التي قامت من أجلها حرب تشرين محركاً قوياً للنضال العربي، على الرغم من المحاولات التي بُذلت وتُبذل الآن لإجهاض نتائج هذه الحرب، فجاء تشرين التحرير اليوم وعادت قصص البطولة لتروي ذكريات لا تُنسى، لتبقى سورية التي خاضت ودعمت جميع الحروب وعمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي والاعتداءات الغربية عنواناً للصمود والمقاومة ومثالاً للتضحية والاستعداد لبذل الدماء المطلوبة، لتحقيق الانتصارات ورسم مستقبل مشرق لجميع العرب والأحرار في منطقة أراد الغرب على الدوام الهيمنة عليها.
ميس بركات