ذاكرة النصر
ما بين حرب وحرب مر عمر من أحداث تباينت في تأثيراتها وصداها، ففي حرب حزيران لم يكن عمري قد تجاوز السنوات الست وتلوح في ذاكرتي بعض ملامح هذه الحرب التي كانت مختلفة في إحساسي وردود فعلي بالنسبة لأحداث حرب تشرين، رغم المسافة الزمنية القصيرة بين الحربين، إلا أن ما اختلف هو وعيّ لمعنى الحرب وما أفسدته من متعي الطفولية وأنضجتني مبكراً. وهاهي الذكرى تطل لتعود بنا إلى تلك الليلة التي كانت نقطة التحول في حياتنا حيث أخذت سورية تغزل من خيوط الشمس مجد تاريخها ومستقبل أبنائها الذين يتباهون بوجودهم في وطن يضمهم ويمثل انتماؤهم للحياة، فما يعيشه الإنسان من حالات تصبح جزءاً من وعيه لانتمائه الوطني، وهؤلاء الناس المتقدة قلوبهم بشعلة الإيمان والأمل على تجاوز محن الحياة هم من يملكون القدرة على صياغة الحاضر والمستقبل بإرادة وتصميم على مواجهة كل التحديات، هذا ما رسّخه تشرين التحرير منذ اللحظة الأولى لانطلاقة الحرب في وجدان الشعب السوري الذي امتلك مقومات الحلم والإرادة وسر الحياة.
سورية المزروعة فرحاً وأزهاراً هي أم أولئك الأبطال الذين مازالت تنبض في قلوبهم دماء عربية، أولئك الأبطال الذين صمموا على التحدي وإن عظم الخطر، قرروا مواجهة العدو بكل أشكاله، هذا هو قدر سورية وأبنائها، ففي هذا الزمن ليس من موقف محايد، وما من صمت، فإما أن نكون في موقف الرفض، أو نكون في موقف القبول، ومهما كانت الجراح كبيرة لن تعيق إرادة الصمود عن مواصلة شق الدرب نحو شمس الحرية والكرامة، ومهما طغى الطوفان وارتفع، فلابد آتية لحظة انحساره وتلاشيه، زبداً وفقاعات فارغة على صخور الإرادة والتصدي.. ستبقى سورية صامدة، ستبقى متحدية كل الصعاب لأن عزيمة الرجال هي التي تصنع النصر، ولأن الذين صنعوا حضارة العالم وناضلوا في سبيل الإنسانية هم الرجال الحقيقيون الذين مجّدهم التاريخ وحفظ أسماءهم في أنصع صفحاته.
سورية التي تعيش الآن ذكرى انتصاراتها المتواصلة، وهي تعاني ما تعانيه من ألم يأتي احتفالها مترنماً على وقع أقدام رجالها الشجعان الذين يسطرون في كل يوم انتصاراً جديداً يطوق جيدها بياسمين العزة والفخار.. هي تلك المشاعر التي تشكل نبضنا وتتوسد أرواحنا، وتفتح نوافذها لنسائم السلام لتهب على قلوبنا المطبقة على أوجاعها فيستيقظ ياسمينها لينشر أريجه في أرجائها، ويرتب مواعيد الاحتفال والفرح بالنصر الذي رسم لسورية مجدها المسطر على أشرعة الحلم.. هامات تعلو على جراحها النازفة، وآمال تتسامى لتطاول الشمس في عليائها، تنسج من خيوطها وشاحاً يرفرف راية بيضاء في سماء الوطن. فمن زحمة الحرب والدمار.. من ضحكة الأطفال المصلوبة على جدران الموت، ومن أحلام تنسج أملاً بغد جميل باغتتها يد القتل، يسجل رجال سورية الشجعان على امتداد مساحة الوطن أنهم أبناء الحياة الذين هبوا للذود عن أوطانهم، وهاهو التاريخ يعود إلينا عبر الذاكرة يروي للأجيال القادمة حكايات لاتنتهي عن سوريتنا التي يرتسم المجد على جبهتها تضحيات قدمها أبطال سورية من أجل أن يعيش وطنهم عرس الانتصار، وتبقى راية الكرامة والقيم ترفرف في سمائها، ولتكون كل مدينة في سورية عاصمة الدنيا، وإشراقة للمجد.
اليوم ومع الانتصارات التي يحققها أبطال جيشنا على امتداد وطننا السوري يطل فجر جديد معطر بندى تشرين ينشر عبقه في أرواحنا ويفسح في أرواحنا حيزاً لانبثاق أمل.. فصباح سورية المشرقة بقامات طاولت الشمس وسطرت في سفر التاريخ حكايات المجد.. صباحكم سكينة وهدوءاً أبطالنا الميامين وأنتم تغزلون لنا الحياة وشاحاً من سلام وطمأنينة، فتضيء الشموس، ويعبق الياسمين مرتلاً لكم وللوطن أنشودة السلام.. فيا من تحتضنون الوطن في وجدانكم، أنتم الحقيقة التي تجلت بعظيم تضحياتكم، وكلنا ثقة بأن وطننا سـالماً مـنـعـماً ومـكرماً طالما أنتم سياجه المنيع.
وأنتم رياحيننا الطاهرة نتوجه إليكم بهذه المناسبة التي نعيشها على وقع الانتصارات المتواصلة، نحتفي بكم بكلماتنا المكتوبة بفرح القلب وألق الذاكرة لأن أعناقنا مطوقة بياسمين طهارتكم نغزل منها وشاحاً جديداً للحياة، ننهض من أحزاننا وآلامنا نرسم لقلوبنا فضاءات تليق بنقاء بياضكم، ونفتح في الحياة نوافذ تطل على أمل رسمتموه بدمائكم.. أنتم ستبقون أنشودة الخلود، بدمائكم الزكية وبمجدكم رفعتم لواء الأمة فكانت قوتكم أمام ضعف الأعداء وشجاعتكم أمام جبنهم.
سلوى عباس