تشرين التحرير.. انتصار للعقل العربي
إبراهيم أحمد
تُشكّل حرب تشرين التحريرية عام 1973 معلماً من معالم التاريخ العربي المعاصر، وذلك لأنها حققّت انتصاراً داخل العقل العربي الذي كان قد أقنعته الحروب العربية– الإسرائيلية السابقة بأن إمكانية النجاح ضد قوات الكيان الإسرائيلي، إمكانية مستحيلة، كان غارقاً في متاهة العجز بنتيجة الهزائم السابقة، لذلك فإن رسم معالم الطرقات يُشكّل بداية لأي معركة يعرف مسبقاً بأنها معركة طويلة. نعم، لقد رسمت حرب تشرين التحريرية طرقات عربية جديدة، وأحدثت تحولات عديدة ليس فقط في الذهنية العربية وحدها، بل وصلت إلى تدمير مفاهيم وبناء معطيات جديدة في العقل الإسرائيلي الذي أخذ بإعادة حساباته في الاستراتيجيا، استراتيجية حركة الصراع العربي– الإسرائيلي.
لقد استطاعت سورية أن تحقق أول انتصار عربي على الكيان الإسرائيلي منذ عام 1948 بوصول الجيش العربي السوري إلى مشارف بحيرة طبريا. فقد تم اتخاذ قرار الحرب دون إذن من أحد أو حتى من دون علم أحد به، الأمر الذي أعطى المعركة البعد الهام للحروب الذي هو بعد المفاجأة. ما أذهل الكيان الصهيوني الغاصب، فبدأ هذا المحتل الآثم في الأيام الأولى بالتخبط في احتمالات الهزيمة .
لقد جاءت حرب تشرين التحريرية، التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد، ثأراً لكرامة الأمة العربية، وتأكيداً لحقوقها وتحريراً للأرض المغتصبة من براثن المحتل الإسرائيلي الذي أراد للعرب أن يبقوا داخل بوتقة الإحباط وخيبات الأمل والانكسار المتوّلد عن نكسة حزيران وما أحدثته من تصدع في النفس العربية، فكان لابد من فعل عربي يستطيع اختراق تلك الظروف ويمحو ما أفرزته من تأثيرات سلبية، فكانت حرب تشرين وبحق أعظم ملاحم التاريخ العربي الحديث التي اجتثت جذور اليأس وحطمت الأوهام التي أريد لها أن تطوّق الوعي العربي، كما لم تكن حرب تشرين التحريرية مجرد جولة أو معركة عادية من معارك الصراع العربي– الإسرائيلي تنتهي تداعياتها بانتهاء القتال على جبهات الصراع، بل كانت حرباً نوعية اتخذت منحى المنعطف الحاسم وأحدثت تحولاً استراتيجياً في الأوضاع التي كانت سائدة في المنطقة، ولاسيما المرحلة التي تلت عدوان الخامس من حزيران 1967، وما رافقها من غرور صهيوني سياسي وعسكري ومحاولته فرض سياسة الأمر الواقع على العرب عبر محاولة الكيان زرع حالة من اليأس والإحباط والوهن في نفس الإنسان العربي عامة والمقاتل العربي خاصة عبر رسم سلبية سوداوية للجندي العربي مقترنة بالضعف والعجز عن مواكبة تقنيات العصر بموازاة الأساطير التي نسجتها عن جيشها الذي لا يقهر وعن قوتها الضاربة ودفاعاتها التي يصعب على الجيوش المتطورة في العالم اختراقها.
ومن هنا، فقد كانت حرب تشرين التحريرية النقيض الموضوعي لنكسة حزيران، كما وجد الكيان أن أوهامه التي رسمها والهالة الأسطورية الخرافية التي نسجها لجيشه انهارت دفعة واحدة، وبدت الهزيمة العسكرية الصهيونية حقيقة لا تقبل الشك، فاهتزت أركان الكيان الصهيوني ولاسيما بعد اختراق الحواجز والموانع في الجولان وسيناء، فتم وضع حد فاصل في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي.
لقد مثّلت حرب تشرين التحريرية ولادة جديدة لإرادة أمة نفضت عنها غبار الهزيمة، وأكدت جوهر الأمة وحقيقتها الحضارية الخالدة، فقد رسمت بأفعالها ونتائجها قيماً وطنية وقومية كبرى منها:
- الوحدة الوطنية: وقف شعبنا كله في صف واحد في هذه الحرب المجيدة في وحدة وطنية قل نظيرها وراء قواته المسلحة الباسلة، في الجبهة الخلفية للمعارك يرفد الجبهة الأمامية بأبنائه الأبطال وبكل مستلزمات التضحية والصمود، فأبلى مقاتلونا الأبطال البلاء الحسن وأثبتوا بكل جدارة أنهم حماة الديار.
- الثقة بالنفس: في حرب تشرين التحريرية، استعاد الإنسان العربي عامة والمقاتل العربي خاصة، ثقته بنفسه وقدرته على استخدام أحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية وحطّموا وهماً كبيراً حاول الكيان وأبواق الدعاية الصهيونية ترسيخه، وبذلك انتصر المقاتلون الأبطال على اليأس واسقطوا الوهم والأسطورة ورفضوا الهزيمة وهزموا النكسة ببراعة قتالية وقدرات بطولية وثقة مطلقة بالنفس وإيمان راسخ بالحقوق وعدالة القضية. لقد برز المقاتل العربي مارداً جباراً، ينفض غبار اليأس والظلمة، قوياً شجاعاً يهزم التردد والخوف ويرد النكسات، فكانت حرب تشرين المجيدة حرباً لتحرير الإرادة العربية. يقول القائد المؤسس حافظ الأسد: “انتصرت الذات العربية، وانتصر الإنسان العربي لأنه عرف ذاته وخبر طاقاته..”
- التضامن العربي: رسمت ملحمة المجد والفخار انطلاقة عربية، وشكّلت المنطلق لمواجهة شتى أشكال التحديات التي تواجه العرب فقد كانت التجسيد العملي للتضامن العربي والتعبير الواقعي للإرادة العربية في سعيها لتحرير الأرض واستعادة الحقوق، فقد امتزج الدم العربي على بطاح الجولان ورمال سيناء، وأكد أبطال تشرين بالدليل المطلق أنهم جميعاً أبناء أمة واحدة، كرامتهم في استشهادهم، ووجودهم في تلاحمهم وتآزرهم، تجمعهم العروبة والأرض والتاريخ ووحدة المصير وتطلعاتهم المشروعة إلى غدٍ يزول فيه العدوان ويحققّون ذاتهم العربية. نعم لقد جسّدت حرب تشرين حقيقة راسخة ألا وهي أن قوة العرب في تضامنهم .
تمر ذكرى حرب تشرين التحريرية وسورية شعباً وجيشاً وقيادة على مشارف كتابة الفصل الأخير من حربها على التنظيمات الإرهابية التكفيرية التي اتخذت من سورية وجهة لها، وساحة لأعمالها الإجرامية خدمة للمخطط الصهيو – أمريكي وأذياله في المنطقة من الرجعية العربية والعثمانية الطورانية الجديدة الذي يهدف للقضاء على حركة التحرر والنهوض القومي العربي، فقد أثبت جيشنا العربي السوري البطل قدرة فائقة في التصدي لتلك القطعان الظلامية الهائجة التي امتهنت جّز الرقاب، وسحل الأجساد واقتراف أبشع أنواع الجرائم فاقت ما ارتكبته الفاشية والنازية.
الجيش العظيم الذي صنع أمجاد تشرين، ومرّغ أسطورة جيش الكيان الصهيوني الغاصب بالتراب، لهوَ الجيش القادر على دحر الغزاة الأمريكيين وأذنابهم ومرتزقة السفاح العثماني، وستبقى حرب تشرين واحدة من معارك العرب الخالدة ومعيناً لا ينضب نستمد منه قيم ومعاني الإرادة والصمود والدفاع عن الحق والسيادة والكرامة.