صرخة امرأة وأم!
إلى كلّ الأصدقاء والصديقات في عالمي الافتراضي والواقعي. أنا صديقتكم منذ سنوات عديدة وتعرفونني من خلال هذا الجهاز العجيب وعالمه الغريب، ربما يكون وهماً وربما يكون حقيقةً، وربما يكون من صنع خيال إنسان عبقري أراد به أن يقرّب كل شرائح العالم وأديانها ليزرع بينهم حبّ التآلف والتسامح وحثّ روح الإنسانية داخلهم، وربما يكون شخصاً حاقداً يتملكه شعور النرجسية والملوكية، ويريد لهذا العالم أن يفنى ويبقى هو سيد هذا الكون، يتفرج على جنس البشر وهم يتصارعون كالثيران الهائجة ولا يعرفون لماذا يتصارعون، المهمّ أن يبقوا بعيدين عن أهداف كانوا يسعون إليها ثم تركوها أمام هذه الشاشة الزرقاء ليصبحوا صماً بكماً عمياً لا يفقهون!.
لن أطيل عليكم، فإعلاني لا يحتاج شرحاً ولا تفصيلاً، عاركتني الحياة بكل ما أوتيت من قوة وجبروت وعنفوان ولاكتني بين أنيابها بكل برودة أعصاب، تتلذّذ بطعم عذابي وقهري وموتي المؤجّل، ليحلو لها لحظات ابتلاعي في معدتها المتخمة بالفقراء والمساكين والطيبين والتعساء والحزانى والصابرين، وكنت قوية بقدر التحدي لها، صارعتها بكبريائي وشموخي وعزة نفسي وإرادتي التي لا تُقهر ولم تستطع أن تهزمني إلى أن كبُر فراخي، فقدّمت لهم عمري وشبابي وجسدي، أفنوه تحت أقدامهم دون مراعاة لشعوري المكسور بفعل جبروتهم وقساوتهم. كانوا أقسى من حجر الصوان وأعنف من عواصف العالم وجبروت البحر لحظة غضبه، وأشدّ لهيباً من ثورة بركان ضاقت به أحشاؤه فلفظ ما بجوفه ليحرق الأخضر واليابس، ويتلذّذ بخنق الياسمين الأبيض ليفني أريجه الذي ماراق له، ثم يستريح ويأخذ نفساً عميقاً على أرض صحراء قاحلة متشقّقة سوداء، لا تجد فيها هابوباً ولا دابوباً، حتى الغربان السود التي تحلق في كبد السماء تخشى الاقتراب منها. هكذا فعل بي أولادي ورموني بعد أن فصفصوا عظامي كذئب شرس جاعَ لأشهر عديدة ثم انقضّ على فريسته التي لم يبقَ منها إلا العظام المطحونة تحت قوة أنيابه.
عشت الحياة بطولها وعرضها وتعلّمت منها أكثر مما تعلّمت في المدارس فكانت المعلم المتجبّر، لا يمتلك رحمة ولا شفقة بل القوة والطغيان، وكنت كلما تعلّمت درساً ازدادت قوتي وازدادت إرادتي لحب المصارعة والتحدي، لكنها عرفت كيف تلوي ذراعيَّ وتكسر عنفواني وكبريائي بأولادي الذين تحوّلوا إلى مجرمين مجحفين بحقي، عاقين لا يعرفون قيمة هذه المصارِعة العنيفة التي صارعت الدنيا لأجلهم فحرموها أبسط حقوقها في الحياة، حوّلوها إلى خادمة مذلة ومهانة تدور في مكانها كبغل الطاحون الذي لا يعرف الراحة، وهذه الخادمة التي لا جزاء ولا شكوراً باتت ذليلة مهانة، لم يبقَ مرض في الدنيا إلا وأصابها.. الديسك، التهاب المفاصل والربو التحسّسي وأمراض الكولون والمعدة، وكلّ ما يخطر ببالكم من أمراض الأنف والأذن والحنجرة وألم الأسنان والكآبة والتوتر العصبي، فباتت لا تسمع جيداً ولا ترى ولا تستطيع أن تأكل على أسنانها المتعبة، وجسدها لا يقوى على حمل نفسه بسبب نقص الحديد والكالسيوم والمغنيزيوم وغيرها، ورغم كلّ ما تحمله من أمراض جسدية ونفسية لم يراعِ أحدهم مشاعرها كأم، عفواً ولا حتى كخادمة من دون أجر، حتى المجتمع لم يقصّر معي، فكرت بالانتحار أو الهرب إلى مكان لا يعرفني فيه أحد، اتهموني بالهرب مع حبيب أو عشيق وأنا التي كرهت الدنيا وكرهت نفسي وكرهت يوم ارتبطت برجل، وكانت نتيجة ارتباطي أولاداً لا يحملون ذرة مشاعر حب أو حتى استعطاف عليّ وأنا في منتصف العمر. انتهازيون، أنانيون، اتكاليون، لا يعرفون في هذه الحياة سوى قول يلزمنا، ينقصنا، أنت من خلفتنا ويجب أن تكوني خادمة لنا وقد أصبحوا شباناً وشابات، وإذا ناقشتهم يتشدّقون بأسوأ الكلمات ملزمة بنا رغماً عنك، يجب أن تتحملي وتصمتي وتقدمي لنا كل ما نحتاجه، غير قادرين على تحمّل أية مسؤولية.
هل كان فعلاً ذنبي أنني خلفتهم لينتقموا مني ويجعلوا حياتي جحيماً لا يُطاق، وهل أفرز المجتمع منهم كثيراً، أم أنني وحدي أعاني من قسوة أولادي وطغيانهم، ألم يقل الله في كتابه.. أمك ثم أمك ثم أمك؟.
لا أريد منكم سوى أن تقدموا لي خدمة وتبحثوا لي عن عمل حتى ولو خادمة في بيوت الأكابر، ربما يقدّرون تعبي ويكونون أرحم من أولادي عليّ ويشعرون بإحساسي كامرأة بلغت من العمر عتياً وهي تعاني من قسوة أولادها وتعنّتهم، حتى جعلوا الحياة تنتصر عليها بعد هذا العمر!.
هذه كانت كلمات صديقتي على “النت” والتي عشت معها سنوات الأزمة وتعرفت إليها عن قرب، وكنت أعلم بكل تفاصيل حياتها القاسية مع أولادها الذين أعطتهم كلّ حبها وحنانها وطيبة قلبها التي جعلتها مداساً لهم ومحطّ سخرية، لأنها فقط لا تمتلك شهادة، وهي التي أوصلتهم إلى برّ الأمان على وجع أكتافها وفناء جسدها، فكانت النتيجة إذلالاً وقهراً وحرماناً من أبسط حقوقها كإنسانة تمتلك من المشاعر والأحاسيس ما لم يمتلكه إنسان، فصارت مطمعاً لأولادها ومجتمعها وكانت تردّد دائماً “ليت جرحي من الغريب وليس من دمي”.
وعندما قرأت مادوّنته على “النت” تقطّع قلبي ألماً وحزناً على كلماتها التي تنزّ حرقة ويأساً من أولادها وظلم القدر، ولم أدرِ كيف تساقطت بعض دموعي فسارعت للاتصال بها لأطمئن عنها، فهي لا تفعل ذلك إلا إذا وصلت إلى حافة النهاية وهي الصبورة على الهمّ والألم والقهر، لكنها لم تردّ عليّ، حاولت مرات عديدة دون فائدة، وما أبكاني أكثر أنها وضعت رنّة جوالها أغنية لوردة الجزائرية “اشتروني واعرفوا قيمة غلاوتي.. اشتروني يلي مش عارفين حكايتي”. كانت تحب هذه الأغنية لأنها تلامس روحها المتعبة والمحطّمة، وهي التي عاشت حياتها محرومة من الحب والحنان، غير قادرة على البوح بما في قلبها لقريب أو صديق غيري، وعندما سألت أولادها عنها قالوا: خرجت ولم تعد!!.
نبوغ أسعد