“أناس بلا طفولة”.. معاناة الأطفال الأرمن في دور الأيتام بعد الحرب العالمية الأولى
انترانيك زاروكيان: شاعر وقاص وروائي، قضى طفولته في مياتم حلب وجبيل، حيث سطّر أولى إبداعاته، ومن نتاجه كتابه “أناس بلا طفولة” أبطاله الأولاد الأيتام، وهو واحد منهم ومسرحه دار الأيتام، إذ قاسى هو ومجموعة من الأولاد البؤس والحرمان، وتواجدت هذه الدور في تلك الأيام من عام 1915 بكثرة في معظم المحافظات السورية، تحتضن داخل أسوارها الآلاف منهم. إنهم أناس كبار، في هيئة أطفال صغار، لم ينعموا بالدفء العائلي الذي يغمر الأطفال في عمرهم، وهناك بين جدران الميتم سعى كلّ منهم إلى شخصية الرجل الواعي الذي يكافح من أجل قهر الشعور بالحرمان في نفسه المضطربة.
الكتاب في مجمله إحياء لوجه من أوجه حياة الأرمن في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى، وهو تعبير عن حياة هؤلاء الصغار الذين سيجابهون الحياة بعيداً عن رعاية الأبوين وعن حياة الأطفال المعهودة.
يقول المؤلف عن كتابه: “لم نعش طفولة معهودة لأننا كنّا أرمن.. وكنّا يتامى، هل هذه طفولة أن نتواجد على قارعة الطريق في البرد والمطر ونحن أنصاف عراة.. حفاة.. وتعساء.. أكان الحرمان والجوع والدموع ولامبالاة الغريب وقسوة القريب طفولةً؟ هل أيام طفولتك يابدروس الصغير عندما كنت توقظ الميتم بأكمله كلّ ليلة بصرخات رعب، وتصيح “لقد أتوا.. لقد أتوا”، ذلك لأنك شاهدت بأم عينيك ذبح أمك وأخيك الكبير قرب نبع الماء، تحت الشجرة الكبيرة، وفي كلّ ليلة يزورك المشهد في منامك المليء بالكوابيس: “لقد أتوا.. لقد أتوا”؟.
كانت طفولة أرتين الناعم والبخار الكثيف يتماوج أمام عينيه، يقف أمام الفرن يشتمّ باضطراب فوحان رائحة الخبز الساخن، ولعابه المرّ يسيل في حنجرته الجافة.
يا أرتين الناعم، يا من كنت تتقن، وأنت في سن السادسة، جميع أساليب السرقة والسلب ومختلف فنون مهنة التسوّل العسيرة.. هل عشت طفولتك؟ يا سيساك، صاحب الشعر الأجعد، عندما سلبت من الكيس أمام الدكان كمشة من البلح وهربت، لكنك لم تستطع تناول حبة منه، لأن صاحب الدكان وصل إليك وهشّم ساقك بضربة من الذراع الحديدي للميزان وأصبحت أعرج منذ ذلك اليوم ولم تنعم بالبلح، وحملناك إلى الميتم وبقيت حتى الفجر تصرخ: ماما.. ماما.
كانوا ألوفاً، بيوتاً عدة بل أحياء بكاملها، وكان حيّهم هو جرح المدينة، كانت الحياة مجردة من مفهومها بالنسبة لهم، والأيام فارغة من معناها وأسمائها.. كنّا نبحث عن قطعة خبز أو قليل من الزبيب أو بذور من القرع.. هكذا هي طفولتهم، وكانت تلك حياتهم.
إبراهيم أبو مخطة.. هل افتقدت طفولتك وقد خسرت إحدى عينيك من أجل قطعة لفت واحدة وبقيت تعصبها مدة ثلاثة شهور، وكانت قمة الحذاقة أن تقفز من سور البستان، ولكنك دفعت الثمن غالياً، لم يكن البستاني شريراً، لكنه أطلق الحجر ولم يكن باستطاعته أن يردّه، لقد أعطوك عيناً زجاجية، وتمتّعت بخيرات المستشفى مدة أسبوعين كاملين، هل تريد أن تتذكر تلك الأيام؟
لم يكونوا مجرد أيتام ولم يضعوا على وجوههم قناع البؤس واليتم، ولم يشعروا بغياب الخير والحنان، وملامحهم كانت خشنة وشريرة، كانوا يكرهون الجميع، ويكرهون بعضهم، سلاحهم الكذب والغش والخداع، ومن الطبيعي أن يضرب الضعيف، وأن يتلقوا الضرب من الأقوى، كان بإمكانهم أن يتناحروا وأن يُدمي بعضهم بعضاً من أجل كسرة خبز بحجم راحة الكف، الحب كلمة جوفاء والصداقة إحساس غريب عنهم والطعام اليومي هو الصديق والحبيب.
من سرق الخبز من تحت الوسادة، أنت ياطوروس الماكر وعبّرت عن شكوكك في ليفونك واقترحت الذهاب إليه وإشباعه ضرباً، بعد ثلاثين عاماً ما زال هناك صوت في داخل الكاتب يوسوس له ويقول: إنك أنت الذي التهم خبزه.
في الكتاب قصص كثيرة عن حياة هؤلاء الأطفال الذين عاشوا في الميتم، إنهم في كلّ مكان.. أصدقاؤه المحرومون من الطفولة.. فيهم الغني والبائس والفنان والناجح والمنحرف. إن الحياة كشفت عن سرها والأيام خلت من الأحلام والسعادة أضحت دون بريق، لأنهم بلا طفولة، إنهم يتامى أرمن، أولئك الناس من بين بشر الكرة الأرضية الذين يكرهون طفولتهم. لم يملكوا أحذية أو جوارب أو قبعات.. يملكون فقط أكواب الشاي التنكية والملاعق النحاسية، كان الشاي يوزّع عليهم بالمغرفة والخبز يوزع عليهم من الزنابيل الكبيرة. إنهم يتصارعون على رغيف الخبز ويتفتّت الرغيف ويضيع في غمرة هذا الصراع. وبعضهم يقامر بحبات الجوز على حساب الخبز وتكون فارغة.. وهناك معركة أخرى بسبب سرقة الملاعق.
عشرات القصص ضمّها كتاب “أناس بلا طفولة” وجدوا في الميتم وعاشوا بلا أمل.. كلّ واحد له قصة محزنة تنتهي بالجوع والحرمان، ينقلون من مدينة إلى أخرى وهمّهم أن يعيشوا بلا أمل.
كتاب “أناس بلا طفولة لـ انترانيك زاروكيان صادر في بيروت ويقع في 192 صفحة من القطع الكبير.
فيصل خرتش