لماذا الصراع على المحكمة الاتحادية العليا؟
ريا خوري
ماذا تشكل المحكمة الاتحادية العليا في النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية؟ وما هي أهميتها سياسياً ودستورياً، وما هو دورها وموقعها بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؟. في الحقيقة نجد الإجابة الدقيقة على كل تلك التساؤلات عند القاضية روث بايدر جيتزبرج، التي كشفت عن الدور المحوري للمحكمة، وطبيعة الصراعات الحادة بين الديمقراطيين والجمهوريين على من يترأسها، ونتيجةً لذلك الصراع المحتدم أوصت جيتزبرج، وهي المدافعة عن حقوق المرأة والحقوق المدنية، بألا يتم شغل منصبها إلا مع الرئيس القادم، ويبدو من وصيتها وجود خلاف شديد حول تعيين خليفة لها. فالحزب الجمهوري سارع بعد تلقيه خبر وفاتها للانقضاض على المنصب مستفيد من الأغلبية الساحقة للجمهوريين في مجلس الشيوخ، وذلك ليتم تعيين السيدة إيمي كوني ذات الثمانية وأربعين عاماً، وهي معروفة جداً في الأوساط السياسية والقضائية الأمريكية، والجميع يشهد بمواقفها المحافظة المتشددة.
باختصار شديد إن الصراع الساخن على المحكمة الاتحادية العليا هو صراع على الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك لأنّ قرارات المحكمة ملزمة، ولا يوجد أي سلطة أخرى فوقها، ولها تأثير كبير ومباشر على كل مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهي من تحدد مستقبل الفيدرالية الأمريكية أو مستقبل اللا فيدرالية، فالمحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة تستمد مكانتها السياسية العليا كونها المؤسسة الأهم والأعلى في النظام السياسي والدستوري في أمريكا. كما أنها المسؤولة بشكل أساسي عن التأكد من التزام الجميع بالدستور، ورئاسة النظام السياسي تعني بشكل واضح وصريح أن الرئيس الأمريكي هو فقط من يتولى السلطة التنفيذية وكل الجهاز الإداري والحكومي يعمل تحت أمره، وفي ذات الوقت سلطة التشريع أي سن القوانين من صلاحيات الكونغرس الأمريكي بمجلسيه النواب والشيوخ، ويتميز مجلس الشيوخ فقط بالتصديق على التعيينات الرئاسية العليا بالأغلبية الساحقة. أما سلطة القضاء وهي سلطة مهمة فهي من اختصاص المحكمة العليا، وأيضاً تنفرد المحكمة الاتحادية العليا بخاصية غير متوفرة لغيرها، وهي أن أي عضو من أعضاء المحكمة الاتحادية العليا يبقى قاضياً مدى الحياة، ولا يمكن إقالته إلا في أضيق الحدود بتهم الفساد أو مخالفة الدستور، حيث إنه لا توجد أي سلطة على القضاة بعد تعيينهم، فقط السلطة قبل التعيين من قبل الرئيس الأمريكي نفسه وتصديق مجلس الشيوخ الأمريكي.
ونظراً لمسؤولية المحكمة الاتحادية العليا عن تطبيق وتفسير وشرح تفاصيل الدستور الأمريكي فهي المؤسسة الأهم والأقوى، فمن صلاحياتها إلغاء أي قانون يصدره الكونغرس، ومن المعروف كم هي معقدة جداً عملية صنع القوانين، وللمحكمة حق إلغاء أي قرار رئاسي ترى أنه مخالف للدستور الأمريكي، ولها سلطة مطلقة على كل القوانين الصادرة من الولايات المتحدة نظراً لخضوع دساتيرها للدستور الاتحادي. هذه الأهمية وهذه القوة التي تتمتع بها المحكمة الاتحادية العليا تفسر لنا حدة الصراع بين الرؤساء الأمريكيين والحزبيين على مناصب القضاة. من هنا يظهر السبب الرئيس لحرص الرؤساء الأمريكيين على تعيين قضاة يتوافقون معهم أيديولوجياً، وهذا هو العامل الهام الذي يقف خلف تفسيره للدستور، والتفسير في غالب الأحيان يكون في صالح الفيدرالية أو صالح الولايات أو في صالح الرئاسة ذاتها في أي قضية من القضايا. مثل قضية الانتخابات الأمريكية التي يلوح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه قد لا يقبل بنتيجتها مسبقاً بسبب التزوير في طريقة البريد الإلكتروني التصويتي، هنا يأتي دور المحكمة الاتحادية العليا التي قد تعيد الرئيس دستورياً للرئاسة، وهذا ما يطمح إليه دونالد ترامب، وهو السبب الرئيسي وراء قرار تعيين القاضية كوني.
الجدير بالذكر أنه تناوب على المحكمة حتى الآن مائة واثنا عشر قاضياً منهم أربع نساء، وبتعيين القاضية إيمي كوني الجديد ارتفع العدد إلى خمسة. واحدة منهن من أصول لاتينية، وهي (سونيا سوتو ماريور)، وكان قد تم تعيينها في إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، والمفارقة في هذا الشأن أن ما يحدث في هذا الوقت في عهد دونالد ترامب قد تكرر في عهد الرئيس باراك أوباما عندما طرح اسم المرشحة (ميرك جار لاند) خلفاً للمحافظ الراحل (أنتوني سكايا) ورفضه الجمهوريون بذريعة انتهاء سنة الانتخابات، وأن الرئيس الأمريكي القادم هو من له الحق أن يعين، وأهمية التعيين الأخير أنه يأتي ضمن أغلبية من المحافظين داخل المحكمة الاتحادية العليا التي تتكون من تسعة قضاة، فهناك لا يقل عن خمسة قضاة منهم محافظون، وللتغلب على مشكلة العدد تم اقتراح أن يكون العدد خمسة عشر قاضياً في عهد الرئيس الأمريكي الراحل فرانكلين عام 1937، ولكن تم رفضه من قبل الكونغرس، كما أن أغلبية الأمريكيين يرفضون بشدة زيادة أعضاء المحكمة ليبقى العدد عند تسعة أعضاء، وهذا يعني أن صوتاً ليبرالياً أو محافظاً قد يغير الحكم الصادر عن المحكمة الاتحادية العليا.
ترامب يدرك أهمية هذا الدور، خاصة في سنة انتخابات يخشى من عدم الفوز فيها، وهنا نرى أن أحد السيناريوهات المتوقعة هو أن بوابة ترامب للبقاء في المنصب دستورياً هو أن تقوم المحكمة الاتحادية العليا بالتشكيك بنتيجة الانتخابات.