مجلة البعث الأسبوعية

المناظرة الأولى.. لمن الفوز: “جرو بوتين” أم “جو النائم” أم “كورونا”؟!

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن

في الوقائع المثبتة، لم تخلُ أي انتخابات أمريكية من تبادل الشتائم والبذاءات اللفظية والضرب “تحت الحزام” بين المتنافسين، ولم يكن ذلك أمراً سيئاً بالمطلق، سواء للديمقراطية بمعناها الحقيقي، أم للمرشح نفسه، فقد يكون سجله السيئ ذخراً انتخابياً جيداً له، كما حدث مع دونالد ترامب ذاته في المناظرة الانتخابية الشهيرة مع هيلاري كلينتون، منذ أربعة أعوام كاملة، حيث وجد البعض في ذكوريته وتنمّره على النساء والأقليات صورة لـ “رجل” يدافع عن “فحولة” العرق الأبيض كأصحاب أصليين لأمريكا على ما يرون أنفسهم.

لكن البذاءة الشخصية كانت سابقاً – وفي مجملها – محمولة على خلاف حقيقي حول برامج معظمها داخلي، لأن القضايا الخارجية ليست من اختصاص أي من المتنافسين، فذلك أمر متروك لـ “مجلس الإدارة” الذي يقرر الاستراتيجيات الكبرى وتكتيك تحقيقها في كل حقبة زمنية.. ثم، ليكن أي كان رئيساً إذا استطاع اقناع “المجلس”، والجمهور، بقدرته على تنفيذها، ولا بأس هنا من بعض البذاءات التي تطال رئيس هذه الدولة، أو تلك، ما دام من المغضوب عليهم.. والضالين في الآن ذاته، بمعنى أنها بذاءة رسمية ومبرمجة.

وإذا لم نرد العودة بعيداً في تقديم الأمثلة، فيكفي القول أن الانتخابات الأربعة السابقة، وعلى ما حفلت به من بذاءات وشتائم متبادلة، إلا أنها استندت إلى برامج موجودة ومحدّدة، والأهم، ذات توجهات مستقبلية، فالشاب بيل كلينتون فاز على جورج بوش الأب، “بطل حرب الخليج”، ببرنامج تفعيل الاقتصاد وشعار “إنه الاقتصاد يا غبي”، وبعده استعادت عائلة بوش الرئاسة، عبر بوش الابن، بوعد القدرة على تنفيذ أجندة المحافظين الجدد في إعادة الألق للإمبراطورية، فيما فاز باراك أوباما على منافسيه “لأننا نستطيع” أن نجعل أمريكا جديدة وقوية عن طريق تصحيح أخطاء بوش الصغير، وفق تقرير بيكر – هاميلتون الشهير القاضي بسحب القوات الأميركية من العراق، ولاحقاً من أفغانستان، والأهم خطة “أوباما كير” الشهيرة والمنصفة للفقراء وذوي الدخل المحدود. وبدوره، فاز ترامب على هيلاري كلينتون بأمل “أمريكا أولاً”، وذلك كان شعاراً هاماً لخليط هجين ومعقّد مركّب من “لوبيات” مؤثّرة متعدّدة، مع رجال مال معادين للضرائب وللإنفاق الاجتماعي، وبيئات تقليدية محافظة، كما أنه، وللحقيقة، كان شعاراً هاماً أيضاً للمتعبين من الانشغال في الخارج في ظل وضع داخلي صعب.

بيد أن المناظرة الانتخابية الأولى بين المتنافسين في الانتخابات الحالية لم تقدم شيئاً واضحاً مما سبق، ولم يخرج الجمهور بمعلومة حاسمة منها عن برامج المرشحين، وربما جاءت نتيجتها الوحيدة والواضحة على شكل سؤال واحد مفاده: هل سيستمر انحدار الإمبراطورية مع “جرو بوتين”، أو “جو” العجوز النائم؟!! والأدهى من ذلك أن “كورونا” ذاته تدخّل في هذا التوقيت الحرج ليضفي على الملهاة الدائرة بعض لمسات المأساة التي لا بد منها في هذا الجو المثقل بالكراهية.

والحال، فإن المسكوت عنه في مناظرتهما الأولى لا يشي بغير ذلك الانحدار، فأن يصف بايدن خصمه بـ “جرو بوتين” فإنه يستبطن القول – ومعه أكثرية موصوفة بحسب استطلاعات الرأي – إن الرئيس الروسي، العدو التقليدي والمزمن، هو من كان يقود واشنطن خلال ولاية ترامب الأولى، وأن يصف ترامب خصمه بـ “العجوز النائم” فهو يستبطن القول – ومعه أكثرية بيضاء موصوفة أيضاً – إن الديمقراطيين غافلون عن الحقائق الجديدة التي تقول إننا في انحدار، وأننا – نحن البيض المؤسسين للحلم الأمريكي – نريد ما تبقى منها لنا، وليس للأغيار في الداخل والخارج، وهذا هو برنامجنا الوحيد للحكم، مقابل برنامج بايدن الذي لا يزيد على اقتباسات متناثرة من “كتاب أوباما” السابق، وكأن شيئاً لم يتغير منذ نهاية ولايته الثانية.

بهذا المعنى، لم تقدم أمريكا، بحزبيها الرئيسيين، في مناظرتهما الأولى، أي أفكار جديدة خلاقة للمرحلة القادمة وتحدياتها الماثلة والمستترة، فما رأيناه يمكن تلخيصه بما يلي: الثبات في المكان والزمان ذاته عند ترامب، والعودة إلى الوراء عند بايدن.

لكن الخطير في الأمر أن الطرفين، وما يمثلاه سياسياً واجتماعياً، وخاصة ترامب، ليسا على استعداد لتقبل نتائج الانتخابات القادمة ما لم تعلن فوزهما الشخصي، ما يكشف، من جهة أولى، عن حالة الاستقطاب الهائلة في المجتمع الأمريكي، ومن جهة ثانية عن موت السياسة أو غيابها على الأقل، وهذان معاً “خلطة طبيعية” لإنتاج الحرب الأهلية في مجتمع مسلّح حتى الأسنان، إلا إذا نجح المدراء بتصدير المشكلة الداخلية للخارج .. وغالباً ما يكون النجاح هنا مؤقتاً وغير دائم.

خلاصة القول: هذا صراع بين “أمريكا عظيمة” كما يراها الرئيس، و”أمريكا عظمى” كما يراها المنافس، لكن لا أحد تحدّث، فعلياً، عن “أمريكا العظمى” بـ “أل التعريف”، وتلك في قصص نشوء وسقوط الإمبراطوريات طريق انحدار واضح، وذلك مؤشر للقادم. وهنا، لا يهم من يقود أمريكا إليه: جرو بوتين أو جو النائم.. أو كورونا!! فالمحصلة واحدة، لكن المهم والخطير هنا أن الامبراطوريات تكون أخطر وأشرس في طريق انحدارها، ومن هنا المخاوف والمخاطر. ولذلك فالعالم كلّه، بمشاكله ومشاغله وقضاياه، مشغول بالانتخابات ومناظراتها وكورونا ترامب – بعض قواه الكبرى يشارك بفعالية وبعضه يكتفي بالترقب العاجز – لأنها انتخاباته الحقيقية الوحيدة هذه الأيام.