نـقـوش .. درس لا يـنـسـى
“البعث الأسبوعية” محمد كنايسي
ثمة ذكريات لا يمكن أن ينال منها النسيان طال عمر الإنسان أم قصر، ذلك لأنها تتعلق بأحداث حاسمة تترك أثرا عميقا في نفسه وتصبغ شخصيته بصبغة لا تزول. من هذه الذكريات التي لا أنساها حدث عشته طفلا في المرحلة الإعدادية، وكان العروض جزءا من منهاج اللغة العربية الذي كنا ندرسه في ذلك الوقت البعيد، أي منذ أكثر من نصف قرن..
كنت وقتها تلميذا نجيبا، وكان أستاذ اللغة العربية يوليني اهتماما خاصا، ويحثني على المطالعة، ويمدني بالكتب من مكتبته الخاصة. وكنت وقتها قد بدأت أولى محاولاتي الأدبية، وكان يشجعني رغم أنها كانت – ككل البدايات – تحمل بعض الضعف إلا أنها واعدة، كما كان يقول لي..
درسنا جزءا من العروض فوجدته معقدا ومملا، ولم أعره أي اهتمام، لكن الأستاذ كان مصرا على جعلنا نتعلمه بشكل جيد، فاختار العطلة الانتصافية ليوزع على طلاب الصف ملخصا للعروض يضم كل البحور الشعرية، وطلب منا حفظها خلال العطلة عن ظهر قلب، قائلا إن ذلك أحسن لنا من قضاء الوقت في ما لا يعني، ومؤكدا أنه سيختبرنا بعد العودة الى الدراسة للتأكد من أننا حفظناه..
أزعجني الأمر كثيرا، فقد كنت انتظر العطلة بفارغ الصبر لأمور أخرى، ولم يدر في خلدي أبدا أني سأضطر لقضائها محبوسا بين أربعة جدران لأحفظ تلك المادة المزعجة..
كنت في ورطة لا أدري كيف سأخرج منها. فكرت وفكرت حتى توصلت إلى ما اعتقدت أنه مخرج منها. قررت ببساطة ألا أحفظ المادة، وأن أغيب عن أول درس لغة عربية بعد انتهاء العطلة والعودة الى المعهد. وهكذا كان.. لم أحضر الحصة، وحصلت من مستوصف البلدة على تقرير يفيد أني كنت مريضا لأبرر غيابي اذا اضطررت..
وانتظرت مرور حصة اللغة العربية التي تغيبت عنها لأسأل زملائي عما فعل الأستاذ، فقالوا لي إنه سأل بعض الطلاب أسئلة بسيطة، وكان متسامحا حتى مع الذين تأكد له أنهم لم يحفظوا المادة..
عندها شعرت بالراحة، واعتقدت أن الأمر انتهى عند ذلك الحد. وبعد يومين، حضرت حصة العربية، وأنا مرتاح البال وغير متوقع أن يحدث ما سيحدث، فما إن جلس الطلاب على مقاعدهم حتى نظر لي الأستاذ نظرة صارمة، وقال بنبرة غاضبة: أنت قف واسمعنا ما حفظت من ملخص المادة ؟ ارتبكت.. وبالكاد تمتمت بصوت خافت: لم أحفظ شيئا. قال: لماذا ؟ قلت: كنت مريضا. سلط علي نظرته الغاضبة من جديد، وقال: أنت كاذب.. اخرج من القاعةـ واذهب إلى مقر الإدارة.. وكان ذلك يعني أني ساتعرض إلى عقوبة شديدة..
اتجهت صوب باب القاعة فمررت قربه وبصري موجه إلى الأرض، فإذا به يقول: من كان لله دام واتصل، ومن كان لغير الله انقطع وانفصل.
خرجت من القاعة وأنا في حالة لا توصف من الشعور بالندم، وأحسست أني خنت ثقة الأستاذ الذي اهتم بي وشجعني، وأني خذلته..
كرهت نفسي ولم أدر كيف تمكنت من الوصول إلى الإدارة حيث تلقيت إنذارا بالفصل إذا أعدت فعل ما فعلت، ثم غادرت المدرسة الى البيت وأنا أبكي طوال الطريق..
لم أ غادر البيت ثلاثة أيام بتمامها وكمالها قضيتها في حفظ ذلك الملخص اللعين الذي جعل أستاذي يغضب مني. كان الأمر شديد الصعوبة ولا أعتقد أن أحدا قد تمكن من حفظه، لكن كان علي أن أستجيب للتحدي، وأن أقدم الشئ الوحيد الذي يجعل أستاذي يسامحني وهو أن أحفظ الملخص..
ثلاثة أيام مع البحور الشعرية وأوزانها وعللها وجوازاتها.. إلى ان تمكنت بقوة التحدي من حفظه..
وفي اليوم الرابع، ركضت في الصباح إلى المدرسة، وكان درس العربية أول الدروس، وما إن دخلنا القاعة حتى وجدتني أصرخ دون وعي: أستاذ، حفظته كله، وأنا مستعد لإسماعك..
نظر لي نظرة تفيض رضا وبهجة، وقال: كنت أعرف أنك سوف تفعل، ومن اليوم ستكون أنت من يعطي درس العروض، فلا أحد منا في هذه القاعة يحفظه غيرك..
شعرت لحظتها أني أكاد أطير من الفرح، فقد استعدت ثقة أستاذي الذي كنت أحب وأقدر..
وبعد أيام قليلة أخذت أكتب الشعر الموزون باقتدار أثار إعجاب الأستاذ وجعلني شاعر المدرسة.. وأنا أكاد لا أصدق..