طاهر بني اختزل العالم في لوحات جمالية رائعة
طاهر بني فنانٌ وباحث تشكيلي، وُلد في سورية، مدينة حلب عام 1950، في حي العينين، المتاخم لباب الجنان، وهو ابن حيّ شعبي يمتهن معظم أبنائه بعض الأعمال اليدوية وبيع الخضار، وبعضهم توجّه للدراسة.
في منتصف الخمسينيات انتقلت أسرة الفنان إلى حيّ الأنصاري الشرقي، وسكنت في منزل يتألف من غرف محدودة وفسحة، في وسطها بركة ماء إلى جانب حوض صغير يضمّ بعض الأزهار العطرة ونباتات الزينة ودالية عنب تظلل الفسحة السماوية، وأمام هذا البيت يربض قنّ لدجاجات كانت تسرح أمامه.
في هذا الحيّ كانوا يستعينون بمياه الأمطار التي يجمعونها في براميل، أو يشربونها من صهريج يبيع الماء، والكهرباء غير موجودة، فقد كان مصباح الكاز هو الذي ينير البيت، لكن الطبيعة التي حوله كانت تشحنه بمخيلة تغذي روحه، كما كانت الفراشات الملونة والديكة والدجاجات تسحره بأصواتها، ورائحة خبز التنور تهزّ مشاعره.
في المقابل كانت محلة العينين، حيث كانت دكان والده، تبهره بأزقتها ودكاكينها، ولاسيما دكاكين باعة الخضار، وتصنيع الأواني النحاسية، وورشات صناعة الأواني الفخارية، والخانات التي يقصدها الريفيون ويربطون دوابهم قبل التجوّل في الأسواق.
قبل الدخول إلى المدرسة، كانت تثيره رسوم والده، ولا يزال يذكر عندما أجلسه الوالد على ركبته، ورسم له على دفتر صغير صورة الطاووس، وأخرى لجندي وهو يحمل بندقية، ويقف أمام محرسه، وحين دخل المدرسة راح يرسم أشكالاً آدمية من الحروف، وقد أعجبت الفكرة أستاذ الجغرافيا، فسمّاه الفنان الصغير.
بدأ طاهر بني العمل في سوق الخضرة بعد دوامه المدرسي، وعندما وصل إلى الصف الأوّل الإعدادي، قادته قدماه إلى دار الكتب الوطنية، حينذاك أقبل على قراءة الكتب والأعمال الروائية والقصصية. وفي المدرسة أظهر اهتماماً ملحوظاً بفن الأشغال اليدوية والرسم، وحين أصبح في الصف الثامن قرّبه منه مدرّس الرسم وعلّمه التصوير المائي. وفي الصف التاسع ساهم طاهر في التحضير لمعرض الإعدادية في نهاية العام، وحين جاء ترتيبه الثاني منح علبة ألوان زيتية، وألبوماً فنياً لأحد مشاهير الفن الغربي، وسجله الأستاذ في مركز الفنون التشكيلية، وفي المركز يتعرّف على عالم من الفتنة والجمال، وتوهجت هوايته في الرسم والتصوير، وفي تلك المرحلة كان يجلس صامتاً وهو يتابع أستاذه “نبيه قطاية” يعرض عليهم بواسطة الشرائح الضوئية لوحات ومنحوتات لمشاهير الفنانين الغربيين، وكانوا يخرجون للطواف في حارات حلب القديمة، وهم يحملون معهم عدّة الرسم يسجلون كل ما يبهر أبصارهم.
رسم على غرفة نوم للأطفال صوراً ملونة، ورسم أشكالاً نباتية وزهوراً عليها، وبذلك تحقّق المردود المادي الذي ساعده على إتمام دراسته، وكان همّه منصباً في المرحلة الثانوية على التحضير للمعرض السنوي، يقول طاهر بني: “أرسم وألون وأبتكر، وأدرب زملائي، وأرعى أعمالهم وأوجّه بعضهم، وأقوم بدور مدرّس الفنون متباهياً بموهبتي، ومتفائلاً بما ينتظرني من امتحان يشكل منعطفاً مهماً في حياتي”. وجاءت النتيجة، حفاوة كبيرة بالمعرض وبالفنان ورسوب في الامتحان.
في السنة التي تليها، عمل طاهر بني في تدريس مادة التربية الفنية، ودخل كلية الآداب، قسم اللغة العربية، فأنجز صوراً للأدباء والمفكرين العرب، جاءت مقاربة للصيغ الغربية، وعلى طريقة رامبرانت وطريقة تصويره وتلوينه.
عمل الفنان طاهر بني عدّة معارض في حلب ودمشق، وبقي يجرّب ويبحث عن الجديد في ابتكار صيغ تشكيلية ولونية يسعى إلى ترويضها وتحويلها إلى أبجدية بصرية، تصوغ الأشكال وتحيلها إلى إيحاءات تسود فيها القيم الجمالية والصيغ التعبيرية التي تفتح بوابات التأويل ونوافذ الأمل.
قال عنه أديب مخزوم: “الفنان طاهر بني ينفرد بالمائيات برؤية مصوغة بالعذوبة والحساسية، يبتعد عن الخشونة التي ميّزت المدرسة الوحشية في بداية هذا القرن، ويتبنى لنفسه أسلوباً أحادي الإيقاع عبر لون امتزج مع روحه وإيقاعات الحياة”.
وكتب الأديب وليد إخلاصي: “محاولة جادة وصادقة يساهم فيها الفنان طاهر بني في تثبيت الذاكرة الإبداعية للمدينة، وكذلك في محاولة لإيقاظها، لقد باتت الحاجة ماسة لذاكرة تعيدنا إلى أصولنا، حساسية فائقة للبيئة الفنية ورؤية حلمية لمغامرات المجتمع السوري، في الارتقاء بالحسّ الفردي إلى تشكيل حسّ جمالي فعّال”.
وإضافة إلى الرسم، كتب طاهر بني في النقد الفني، فأصدر عدّة كتب عن الفن السوري، وأهم الفنانين وأعمالهم.
توفي في عام 2019 إثر مرض عضال.
فيصل خرتش