الأخضر الأبدي
عباس حيروقة
وأنا أراقب كغيري من السوريين ألسنة اللهب وهي تلتهم أشجار الزيتون بغير رحمة ولا شفقة، وغير عابئة بدموع وآهات وحرقات ذاك الفلاح وآل بيته الكرام الطيبين، أحترق وأحترق.. أصّاعد خيط دخان.
وأنا أراقب كغيري من أبناء سوريتنا النور احتراق حتى الماء في جوف الينابيع.. أحترق، والسنديان في جبالنا الطافحة بالعصافير، وبالأناشيد وبحكايات المطر والريح، بذكريات ومذكرات الغمام والبرق وأقمار الحياة وشموسها.
وأنا أراقب كغيري من أبناء وطني النازف المطعون بألف ألف خنجر وخنجر في الظهر والخاصرة والعنق، أراقب النار وهي تعربد بين حقول الزيتون والليمون مدمرة كل ما قد يأتي قبالتها، تدوسه وتمضي تاركة خلفها عرائش من سواد وفراخ تفحمت كغيرها من الكائنات التي خارت قواها وسلّمت أمرها لله وللأحلام.. أحوم.. أطوف كحلم ترمد.. خيط دخان.
الأحلام.. أحلامنا التي تربت وشبّت وترعرعت كأطفالنا بين أغصان شجيرات الحقول وأهازيج الفلاحين وهم يجنون محاصيلهم وسط كرنفالات من المحبة والإيمان والسلام.. أحلامنا التي.. والتي..! ها هي ترمدت بعد أن شاهدنا بأم أعيننا احتراقاتها، وسمعنا لا بل أصخنا السمع لاستغاثاتها ولصرخاتها.. لآلامها الفجائعية.. أحلامنا احترقت.. تفحمت.. ذرتها الريح بعيداً.
وأنا أراقب كغيري من السوريين وبقلب تقطع ألماً.. بعيون – ألفت البكاء حد التقرح – ترى ما رأته من أطفال ونساء وشيوخ وهم ماضون نحو المجهول بعد أن شبت النيران في بيوتهم وفي أرزاقهم، أصير طفلاً يتيماً بلا حتى سقف بيت.
وأنا أراقب كغيري من أبناء جلدتنا وبوجوه مكفهرة وأفواه فاغرة ما حدث ومازال وسط صمت عربي وعالمي مخيف، أصير ألف ألف شارات تعجب واستفهام ونقطة.. أول السطر.
وأنا أراقب النار كيف تشب بدارك يا ابن أمي.. بأرضك، ببرك، ببحرك، أركض كأرنب مذعور يفرّ قلبي كنسر بعمر الألف ألف عام، يحوم فوق كل غاباتنا وكرومنا التي آلت كأحلامنا رماداً، ويطلق صفرته العميقة والحزينة، ثم يبكي ويهمي صريعاً.. أركض، أصعد على تلة عالية عالية جداً، أضع يديّ حول فمي وأصرخ صرخة من مقام نوح حين طوفان مهيب.. من مقام فراخ في أرض عش صلى عليها الغمام وسلم.. أصرخ صرخة بحجم دموع أمهات العالم وبكاء أطفال بلادي.. بحجم هلع كائنات جبالنا المترمدة.. بحجم خجل الغمام.. الماء وهو يضع عينه في عين زيتونة مترمدة وسنديانة عجوز احترق قلبها.. أضع كلتا يديّ حول فمي وأصرخ يا الله.. يا الله.. أين كان كل هذا القبح أين؟! ومَنْ زرعه بيننا مَنْ؟! وكيف شبَّ وترعرع وطال كل هذا الأخضر الأبدي، وهذا البياض الجميل الـمعرش على وجه الأمهات؟! كيف ونحن منشغلون بالإصغاء لصوت الماء وصوت الريح وتهجي مفردات المطر؟!.. كل هذا القبح أين؟ ونحن الذين رسمنا بأهدابنا أقماراً، وكتبنا أهازيج عشاق، وكان الماء ديدننا، وكان النور، كان الضوء.
كل هذا القبح دفعة واحدة؟! كيف؟.. ومن؟.. وأين؟.. ولماذا؟.. ومتى..؟!
أسأل وأسأل.. وأسأل.. إلى أن رأيت.. ما أحزننا يا أخت نوح يا شجرة الزيتون.. وما أحزن سورية.. ما أحزن الشهداء.