18 تشرين الأول 2020.. شرخ في “بديهية ثيوسيديدس”!
أحمد حسن
في العالم، الواقعي، تُمارس السياسة وفق إحدى مقولتين، الأولى، وهي لسان حال القوي، “بديهية ثيوسيديدس” القائلة: “القوي يفعل كما يريد والضعيف يعاني كما يجب”، والثانية وهي لسان حال الضعفاء، والحكماء -ولو كانوا أقوياء- تقول: إن “السياسة هي طريق للذهاب وآخر للعودة”، وتضيف محذّرة، وهو الأهم، إن “من يذهب بعيداً قد يعاني نقصاً في الإمداد”.
المقولة الأولى، أي “بديهية ثيوسيديدس”، تسكن، بالوراثة السياسية والاستعداد الطبيعي، عقل أي رئيس أمريكي -وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة بنتيجتها المعروفة- لكن بعضهم لم يهمل المقولة الثانية كلياً، “بيل كلينتون” و”باراك أوباما” أمثلة جيدة على ذلك، لكن رجلاً بخلفية “دونالد ترامب” -المقاول والعنصري في الآن ذاته- ليس له منطقياً -وإن كان من المرجح أنه لم يسمع بالمؤرخ الإغريقي الشهير- سوى اعتناق الأولى كموجّه وحيد لسياسته التي نجحت، للحقيقة، بشقّيها، أي أنه فعل ما يريد وترك بقية العالم، دولاً وشعوباً، تعاني كما يجب.
لكن التاريخ لا يسير هكذا، على الأقل ليس بهذه الحديّة والفجاجة، دوماً، فبالأمس -ويجب تأريخه جيداً 18 تشرين الأول 2020- دفع إهمال ترامب الكامل والمطلق للمقولة الثانية إلى حدوث شرخ، ولو بسيط، في “بديهية ثيوسيديس”، فحين نفض الرجل يديه من الاتفاق النووي (5+1) وحيداً -لأنه القوي الذي يستطيع أن يفعل ما يريد- دون أي حساب حتى لمصالح شركائه الأوروبيين، الذين يستطيعون، بحسبه، مع روسيا والصين وايران، أن “يعانوا كما يجب”، ذهب بعيداً في السياسة الفجّة، “البلطجيّة” تحديداً، فعانى، كما تشير المقولة الثانية، “نقصاً في الإمداد” من الحلفاء قبل الخصوم، وصل بالأمس إلى أن تحصد طهران إحدى أهم فوائد الاتفاق النووي، وهي: رفع الحظر التسليحي الكامل عنها دون قيد أو شرط بالرغم من المحاولات الأمريكية الحثيثة لإعادة الحظر عبر تفعيل آلية “سناب باك” الشهيرة.
وبالتأكيد، وبغض النظر عن التفاصيل، فإن ما حدث ليس أقل من مؤشر بالغ الدلالة على “اهتزاز الهيمنة الأميركية”، يضاف إلى اهتزازات أخرى سابقة جاءت نتيجة لعوامل متعددة ومتراكمة، لكنها تثبت من جديد أن الاستخدام الطويل والوحيد لـ”بديهية ثيوسيديدس” بصورة فجّة، ليست نتيجته إلا ما حصل، وذلك درس تاريخي لا يتعلّم منه أحد كما تبدو دلالات تاريخ الامبراطوريات السابقة.
لكن، وبالتأكيد لا يجب على مناوئي الأحادية الأمريكية، الإيرانيون أولاً في هذه الحالة، الاستغراق في الاحتفال طويلاً، خصوصاً في ظلّ، تردّد الفريق الدولي المناوئ لواشنطن وضعفه أيضاً، كما في ظلّ تهديد وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو بـ”فرض عقوبات على أيّ فرد أو كيان يساهم في توريد أو بيع أو نقل أسلحة من وإلى إيران”، مستنداً في ذلك إلى تفسير بلاده الخاص لنتيجة تفعيل آلية “سناب باك”، ما ينبئ بأن واشنطن لن تتوانى عن استخدام يدها المالية العالمية، الطويلة والقاسية، لتخريب أيّ صفقة تسلّح من وإلى إيران، وبالتالي لاستفادة طهران، ومعها بقية العالم، من هذا الشرخ.
لكن الشرخ قد وقع، والأمريكيون، بأغلبيتهم، يرونه، ويرون معه هذا الاهتزاز في الهيمنة، ولأنهم يعزون السبب إلى ترامب وحده، فهم يحاولون جاهدين التخلّص منه، وليس تفصيلاً أن ترفع أكثر من 3500 شركة أمريكية، فيما الانتخابات الرئاسية تدخل مراحلها الأخيرة، دعاوى جماعية ضد الحكومة الأميركية بسبب الرسوم التي فرضها “ترامب” على السلع الصينية، فذلك يعني أنّ قطاع الأعمال الأمريكي -الذي بدأ يعاني بدوره من نتائج استخدام ترامب للبديهية الأولى وحدها- يعتبر أن الرجل لا يجب أن يظلّ في البيت الأبيض.
هيئة تحرير صحيفة “نيويورك تايمز”، بمن وما تمثّل، وبعد أن اعتبرت أن “فترة ولاية ترامب المدمّرة ألحقت بالفعل أضراراً بالغة بالولايات المتحدة في الداخل وحول العالم”، وأنه “حطم القواعد التي تربط الأمة ببعضها البعض لأجيال”، طالبت الناخبين “حتى أولئك الذين يفضلونه رئيساً جمهورياً، في الحفاظ على الولايات المتحدة وحمايتها والدفاع عنها من خلال التصويت على خروجه من المنصب”.
لسان حال الصحيفة: لنحاول، كأمريكيين، رأب الصدع الذي سبّبه هذا الرئيس. لسان حال بقية العالم: “وسعّوه” و”عمّقوه”، بانتخاب ترامب، يرحمكم الله..