جامعاتنا أقرب لـ “البحش” والبحث العلمي “غاطس” في بحر الكلام المعسول! المليارات مجمدة و”التعليم العالي” في طور قاعدة البيانات
“البعث الأسبوعية” ــ غسان فطوم
تجمع الغالبية من أساتذة الجامعات، ممن اشتغلوا بالبحث العلمي، أن جامعاتنا ومراكزنا البحثية أبعد ما تكون عن البحث العلمي، رغم بعض الطفرات. واختصر هذه الحقيقة المرّة أحد الأساتذة بقوله: “كل ما نحن فيه هو “بحش” لا أكثر.. للبحث أصول ومقومات، وفي غيابهما يغيب البحث ويحضر البحش!”.
الأساتذة وطلبة الدراسات العليا أجمعوا على أن “كارثة” البحث العلمي – كما وصفوها- تبدأ من إهمال طلبة الدراسات العليا الذين هم نواة البحث العلمي، مروراً بالمعايير المزاجية في اختيار من يوفدون للخارج لمهمة البحث العلمي، والتي تحضر فيها المحسوبيات ليذهب بالنتيجة من لا علاقة له بالبحث العلمي، بـ “التنفيعة” المادية، وصولاً إلى المحفزات المادية “المهينة” كونها لا تتناسب والجهد العلمي المبذول على مدار سنوات!
الراتب لا يصنع بحثاً!
يدعم ما سبق الدكتور تميم عليا الذي عايش البحث العلمي لأكثر من 30 عاماً، فهو يرى أن النظام التعليمي، بكافة مكوناته القانونية والإدارية والبشرية والمادية والمالية، بحاجة إلى ثورة تصحيحية، مشيراً إلى أن الراتب الحالي مع التعويضات الهزيلة لا يصنع بحثاً علمياً يمكن أن يساهم في إعمار البلد: “عندما كان راتب الدكتور ٨٠٠ – ١٠٠٠ دولار (دولار الـ 50 ل. س) لم يتغير شيء في الإنتاج العلمي للجامعات السورية، لأن بقية المكونات بقيت على ما هي”. ويضيف: لا يمكن بناء البحث العلمي فقط بتخصيص المبالغ الكبيرة دون دراسة معمقة لأسباب تخلفه”، مورداً حادثة طريفة حدثت معه: “تواصلت معي طالبة من إحدى الجامعات، وطلبت مني أن أشرف على رسالة الدكتوراه التي تريد تسجيلها، وعندما سألتها عن الموضوع الذي تريد أن تعمل عليه، أخبرتني أنها تريد أن تطبق منهجية حديثة لتحصل من خلال ذلك على الدكتوراه، وعندما سألتها عن هذه المنهجية، اكتشفتُ أنها المنهجية نفسها التي طبقتها على مشروع تخرجي في الجامعة منذ أكثر من 25 سنة.. وللمفارقة فقد سجلت الدكتوراه في هذه “المنهجية الحديثة”.
مهمة للنجاح ولكن!
تتمثل أهم الأسس التي يجب أن يبنى عليها البحث العلمي حتى ينجح – من وجهة نظر الدكتور عليا – بالبنية التحتية، بما فيها من مخابر وتجهيزات ومكاتب ومراجع علمية وأماكن مخصصة للباحثين، والموارد المادية “الميزانيات المخصصة لشراء المواد اللازمة ودفع تكاليف النشر وحضور المؤتمرات والمكافآت التحفيزية”، إضافة إلى الموارد البشرية وهنا المشكلة الأكبر، وبرأي الدكتور عليا فإن توفير البنية التحتية والموارد المالية غير كافٍ لإنجاز بحث علمي متميز، فالباحث هو الأهم، ولدراسة هذا الجانب يجب أن الأداء البحثي يعبر عنه بمعادلة بسيطة: “الأداء = المقدرة + الدافع”، وبعدم وجود المقدرة أو الدافع لا يمكن تحقيق الأداء المطلوب!
لا خبرة كافية!
ويبيّن أننا كباحثين، لا تتوفر لدى معظمنا – منفردين – القدرة على إنجاز بحوث علمية متميزة ومعالجتها ونشرها في المجلات وفي المؤتمرات، فالكثير منا لا يجيد اللغة الإنكليزية بالقدر الكافي لمشاركة أبحاثه في المؤتمرات العالمية أو لنشرها في المجلات العالمية، والكثير من الباحثين لا يوجد لديه الخبرة الكافية لتقنيات النشر في مثل هذه المجلات، لذا نجد أن الكثير من المقالات ترفض شكلاً لعدم استيفائها شروط النشر في هذه المجلات، كما أن الكثير من الباحثين ليست لديهم خبرة في معالجة النتائج إحصائياً، لذلك يقومون بصياغة النتائج بطريقة سردية لا يمكن قبولها للنشر. يضاف إلى ذلك أن قسماً كبيراً من الباحثين، وخاصة ممن لا يجيد اللغة الإنكليزية، لا يتابع آخر المستجدات العلمية، علماً أن هناك الكثير من هذه المواضيع التي يجب الوقوف عندها ومعالجتها بطريقة علمية.. ومن زاوية ثانية، لا يوجد دافع للبحث العلمي – برأي عليا – لأسباب كثيرة، منها عدم توفر البيئة والثقافة المشجعة لتنفيذ للبحث، وافتقاد الباحثين لمتطلبات الحياة الأساسية ما جعلهم ينصرفون إلى الاهتمام بمجالات توفر لهم هذه الاحتياجات مثل العمل المهني أو التدريس في الجامعات الخاصة؛ وهناك أيضاً عدم وجود الحافز، فلا مكافآت مادية تشجع على البحث العلمي، ولا فرص لمشاركة الباحثين بالمؤتمرات العالمية، أو تكريم للباحثين المتميزين، أو حتى تقييم أداء الباحثين، فالكثير من الجامعات الدولية تفرض معايير صارمة لقبول عضو الهيئة التدريسية ضمن طاقمها الأكاديمي، أو لبقائه ضمن الجامعة، بحيث يتم تجديد العقود فقط مع الباحثين الذين يحققون الحد الأدنى من متطلبات البحث العلمي.
إدارة البحث العلمي
وينتقد الدكتور عليا غياب الإدارة المناسبة للبحث، فمن خلال الإدارة يتم اختيار الأجهزة التي تساعد في إجراء البحث العلمي في المخابر، والمحافظة عليها سليمة، واستثمارها بالشكل الأمثل في مجال البحث العلمي، كما تعمل الإدارة على ترميم النقص في قدرات الباحثين من خلال الفرق البحثية، ووضع الآليات التي تميز البحث الحقيقي عن البحث الوهمي عن البحث الضعيف، ووضع المعايير المناسبة التي تشجع طلاب الدراسات العليا على النشر في مجلات عالمية مرموقة، وخلق الثقة بالمؤسسات البحثية وفتح قناة للتواصل الحقيقي بين مؤسسات البحث العلمي وبين الفعاليات الاقتصادية والصناعية بما يحقق الفائدة للطرفين.
لا تعرف ماذا تريد!
وبيّن الدكتور عليا أنه في حال إهمال الجانب الإداري وتخلفه الشديد (وهذا هو حالنا اليوم!) سنكون أمام إدارة لا تعرف ماذا تريد، قبل أن تعرف كيف يمكن تحقيق ذلك، ونكون أمام واقع مختلف تماماً، وخاصة عندما تتولى إدارة المراكز البحثية، والجامعات، وغيرها، كوادر أبعد ما تكون عن البحث العلمي، ولا تعرف أهميته وأبعاده.. لذا، لا غرابة في ظل غياب الإدارة الناجحة أن تتحول الأجهزة المخبرية إلى خردة، ويكره الباحثون البحث العلمي، ويسيطر الجاهلون على مقدرات المراكز البحثية ويديرونها بطريقة متخلفة، ويتولى المتملقون والمنتفعون مواقع القرار، ويُحارب الباحثين ويُضّيق عليهم، وتهدر موارد البحث العلمي في أمور جانبية، وتأخذ المواضيع الجانب الشخصي والمنفعي، ويصبح البحث للترفيع والترقية الوظيفية أو للحصول على مكافآت، وتتحول رسائل الدراسات العليا إلى تجميع بيانات توضع على رفوف المكتبات! بالمختصر: الإدارة هي مربط الفرس في أية تنمية كانت، وهذا الموضوع لا أجد فيه بارقة أمل حالياً لأسباب كثيرة.
الخسارة الكارثة!
من وجهة نظر الدكتور شريف صديق أن سوء التصرّف حيال مشاكل التعليم العالي هو الذي زاد الطين بلة، ويؤكد أن خسارة أساتذة الجامعة يعني الكارثة، “وكأنه يُخطط لذلك، ويدفعونهم إما للغوص في الفساد أو الهجرة”.
ويضيف: صحيح أن الأزمة أثرت على واقع التعليم العالي، ولكن الفساد الإداري كان له النصيب الأكبر في تفاقم هذه الأزمة، ما جعل جامعاتنا في ذيل الترتيب على مستوى المنطقة والعالم. وفيما يخص غياب البحث العلمي وتخلفه، يرى الدكتور صديق أن ذلك نتاج طبيعي في ظل غياب الحافز المادي والمعنوي: “للأسف مكافأة الإشراف على الدكتوراه بقيمة كيلو لحمة”.
ويتساءل: هل يعقل، في ظل هذه الظروف الصعبة، أن يبقى تعويض تقييم مقال علمي في المجلة 2000 ليرة، منها 200 ليرة ضريبة، علماً أنه في الجامعات المجاورة لا يقل عن الـ 100 دولار؟ وهل يعقل أن تحكيم رسالة ماجستير لا يتجاوز الـ 4000 ليرة، والإشراف على الماجستير 15000 ليرة، والدكتوراه 25.000 ليرة.. هذه الأرقام الهزيلة لا تكفي اليوم تغطية تكاليف الهاتف النقال والانترنت!
موارد مجمدة!
ويوضح الدكتور صديق: حتى ننجح في إنجاز البحث العلمي التطبيقي، نحتاج للدعم المادي الذي يتساوى مع الجهد المبذول؛ والمؤلم أن هناك إمكانية لذلك، حيث لدى الجامعات موارد ذاتية “مجمدة” كافية لدعم الباحث، خاصة أن رفع التعويضات يتم بقرار من مجلس التعليم العالي وبموافقة رئاسة مجلس الوزراء، بمعنى أن حل مشكلة تعويضات الهيئة التدريسية، وخاصة العاملين في البحث، لا تحتاج إلى مراسيم أو دعم من موازنة الدولة.
وتساءل الدكتور صديق: “في ظل هذا الإجحاف بحق أستاذ الجامعة بأي نفسية سيعطي نصابه التدريسي؟! أنا اشرف على 10 طلاب ماجستير ودكتوراه، وراتبي لا يكفي حتى 5 من الشهر”.
ماذا تقول الوزارة؟
عندما فردنا ملف معاناة الباحثين ومشاكل البحث العلمي المترهل في جامعاتنا ومراكزنا البحثية على طاولة مدير البحث العلمي في الوزارة، الدكتور شادي العظمة، لم يخفِ أن البحث العلمي ومن يشتغل به يعانون، مشيراً إلى وجود كسل بحثي وتذمر من إنجاز البحث عند العديد من الباحثين: “إذا سألت الباحث أين البحث العلمي؟ يجيبك: أي بحث علمي!! بدي عيش!”، واعترف أن السبب لا يعود فقط لضعف التمويل، فهناك أسباب أخرى تتعلق بعدم استجابة الجهات والمؤسسات الحكومية، وحتى الخاصة، أي عدم التعامل بالشكل المطلوب مع الأبحاث ذات الجدوى، حيث توضع على الرف رغم أهميتها بحل المشاكل العالقة! وهذا – برأيه – ليس مشكلة بحث علمي فقط، وإنما ثقافة مجتمع، بمعنى أن الجميع مسؤول عن الواقع الحالي.
نحن نعمل!
وأشار الدكتور العظمة إلى أنه بالرغم من عدم توفر رغبة عند الباحثين، وبالرغم من ضعف الحافز، وعدم توفر البيئة التشريعية المناسبة للباحث وعدم استجابة الجهات باستثمار البحوث، لكن الوزارة تعمل اليوم بكل السبل لتطوير البحث العلمي، وكذلك الجامعات، من مواردها الذاتية، وهي ليست فقيرة، بل غنية، وهنا من الممكن من خلال أداة تشريعية أن تقوم بدعم الباحثين إضافة إلى دعم المعيدين والموفدين، ولو كان دعماً متواضعاً.
لم يكن هناك دعم!
ورداً على سؤال “لماذا لم تعمل الوزارة على دعم البحث العلمي قبل سنوات الحرب؟”، بيّن أن ذلك يعود لعدم وجود صندوق لدعم البحث، ولم يكن هناك دعم من الهيئة العليا للبحث العلمي، لافتاً إلى أنه بعد إحداث صندوق الدعم “تحلحل الوضع”، حيث أصبح هناك موارد أكثر من مليار ليرة. وقد تم إطلاق 3 إعلانات لاستقطاب البحوث العلمية بمجالات مختلفة، منها ما يخص فيروس “كورونا”، ومنها دراسات عن الوضع الاقتصادي في سورية. وقال العظمة: “نحن نستثمر وفق الإمكانيات المتاحة، فهذا العام إذا ما تم تنفيذ كل العقود البحثية سننفق بحدود الـ 300 مليون ليرة”، مشيراً إلى أن وزارة التعليم العالي تشبك وتنسق بشكل صحيح مع الجهات المعنية، لكن الأهم لديها أن تقوم الجهة طالبة البحث بإبداء الاهتمام الفعلي بالاتصال بالوزارة، لا أن تتصل الأخيرة بها، وهذا دليل على أن الخلل بالنيّة والرغبة عند الجهات المعنية.
قاعدة بيانات!
وعلمنا من الدكتور العظمة أن الوزارة أنهت انجاز قاعدة البيانات الخاصة بالبحث العلمي التي تضاهي – حسب قوله – مثيلاتها في دول العالم العربي ودول أخرى، والقاعدة تضم أسماء كل أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات، وأيضاً أعضاء الهيئة الفنية والمعيدين، وكل رسائل الماجستير والدكتوراه وأسماء المجلات المحكمة، وكل ما يتعلق بالبحث العلمي.
تأخرت كثيراً!
وإذا كانت وزارة التعليم العالي تفاخر بهذه القاعدة لكنها تأخرت كثيراً في إحداثها! رغم ذلك يعول الدكتور العظمة على بذل كل الجهود لتعويض التأخير من خلال العمل الجاد على تفعيل البحث العلمي في الجامعات، ونشر ثقافة البحث ليكون أفضل مما عليه الآن. وكشف مدير البحث العلمي أن الوزارة تعمل حالياً على تشكيل لجنة من أجل إحداث مسار اسمه “مسار الباحث”، و”سنحاول بالقانون والتشريع أن ندخل كلمة باحث من أجل ضمان حقوق الباحث وواجباته، وهذا سيشكل حافزاً للباحث بعد نشر بحثه وتطبيقه”. وأكد أن سورية حتى تنجح بتحقيق قفزات بالبحث العلمي يجب أولاً، الاهتمام بطلبة الدراسات العليا فهم المعوّل عليهم لقيادة دفة البحث، إضافة إلى وضع برنامج وطني كامل لدعم البحث بكل خطواته، أي من الفكرة إلى التطبيق العملي على الأرض.
وخزات مؤلمة!
بعد أكثر من نصف قرن على إحداث وزارة التعليم العالي، كنّا نتوقع أن يكون حال البحث العلمي أفضل مما هو عليه الآن، ليتأكد لنا بذلك قول ذاك الأستاذ “إن جامعاتنا أقرب للبحش من البحث العلمي”، فليس مقبولاً أن نعمل اليوم على نشر ثقافة البحث العلمي وكأنه شيئ طارئ على الجامعات.. والسؤال: ما فائدة قاعدة البيانات إن لم يكن لدينا الباحث المتحفز للعمل؟!
أسئلة كثيرة مؤلمة يمكن أن تطرح هنا تحتاج بلا شك لإجابات جريئة صريحة وشفافة. وبالمختصر: مؤلم جداً حال بحثنا العلمي، وما باح به أساتذة الجامعة هو غيض من فيض المعاناة، وخاصة عندما نعلم أن هناك أكثر من 22 مركزاً بحثياً تعمل بالبحث العلمي، لكنها – بالمقياس العملي على الأرض- عاجزة عن إنتاج بحث علمي تطبيقي تنعكس آثاره على حل المشكلات والصعوبات العالقة في مجتمعنا.