حافظ الشيرازي.. لسان الغيب
“البعث الأسبوعية” محي الدين محمد
إذا كان الشّاعر هو الذي يقف على ساحل اللّجة، بانتظار الخوض في عباب اللّغة، عبر وعي فطريّ تعمّق فيه إحساسه تجاه ذاته أولاً، وعالمه ثانياً، فطاف مع الأمواه التي كانت وسيلته في الكشف عن الأعماق، وقد انتصرت الرّحلة أيّاً كانت المسافة التي وصل إليها، وقد تنبّهت إلى إيقاع صوته على الضّفاف كلّ الأذهان وهي تصغي بإمعانٍ لما يقول، وتطمئنّ على موضوعاته في تنافسها الأزلي حول ضرورة الحاجة الدّائمة لانتصار الحلم الشّعري الذي عصفت به أمواج البحر حتى امتلك أفلاكه، واستوطن معه الشّاعر تحت سقف الخطيئة التي ظلّلت آدم في رحلته لتظلّ القصيدة سؤالاً على الشّفاه، وسحراً يجدّد عشّاق التّجلي البعيد..
بهذا المعنى، سوف أقرأ في الأقاليم وما اشتغل فيها، شمس الدّين محمد، حافظ الشيرازي، وشاعر الشّعراء في إيران، كما قيل فيه إلى يومنا هذا – وهو لم يكن شاعر طبقةٍ بعينها، وإنّما أفاد من شعره، المثقّفون جميعاً، وحتى سائق السّيارة، وراعي الأغنام والماعز، والباعة في الأسواق، وكلّ الأجيال الشّابة، فقيرها وغنيّها على حدّ سواء، ورغم معاناة الشّاعر في طفولته بعد وفاة أبيه، حيث لقي معاملةً صعبة من سيّده في المخبز، وبعد انتهاء عمله كان يتوجّه إلى مدرسة كانت بقرب سكنه ويدفع من أجره اليومي إلى معلّمه لقاء تحصيل الدّروس وبمساعدة أمه.
واستطاع حافظ الشّيرازي، كشاعر، أن يريح كلّ الخواطر التي انفعل أصحابها بشعره، وأن يحرّض المشاعر عند مؤيّديه محليّاً وعالميّاً لمتابعة ما يقوله، وما ينشره، وقد اعترضته في حياته قضيةً اعترف بفشله معها، وهي حبه لفتاة اسمها شاخ نبات، مما اضطّره لأن يهجر كتابة الشّعر مدّة أربعين يوماً، وقد تفرّغ في سرّه للخلاص من أزمة عزلته، فوجد عوناً من الإمام علي، كرم الله وجهه، حيث أطعمه خبزاً سماوياً كما يقول مترجم أعماله، الدّكتور إبراهيم شرابي، وقد أطلق عليه قرّاء شعره بأنه “لسان الغيب”، و”ترجمان الأسرار”.
وفي الحديث عن عصر الشّاعر حافظ الشّيرازي، يمكن القول إنّه عصر القلق والاضطرابات، وكان لمدينة شيراز حصّتها من المعاناة، بسبب وقوعها تحت سلطة الحكّام الذين كانوا يتطاحنون فيما بينهم ويتنازعون على السّلطة في إدارة الشّأن العام.
لكن حافظ، وهو رجل كياسة، وذوق، ونباهة تحملها أناقته الرّوحية، ظلّ متفرّجاً دون أن يضعف في إزاحة السّتار عن سلوكه الشّعري الذي قال عنه أحد محاوريه، وهو الشّاه شجاع، بأنه يعتمد فيه على ثلاثة أنواع، وهي الشّراب والتصوّف والأحبّة، وقد اعترف هو بهذا الرّأي دون أن يعلّق عليه، أو ينفي ما جاء فيه.. كيف لا؟ وهو القائل:
“أيّها السّاقي أشعل بنور الخمر كأس شرابي، وأنت أيّها المطرب، غنّ لي، وقل أصبحت الدنيا وفقاً لمرادي”.
وفي الجانب الفلسفي والجمالي الذي بنى عليه شعره، تودّد إلى الجيل الشّاب، فذّكر بالرّبيع الذي يتضوّع بأريج الورد العاطر وبالخمر الصّافية التي تروي القلوب العطشى، كما أنّه لم ينسَ أجيال الخريف الثّاني الذين ضربهم العجز، واستضافهم خطر الرّحيل، فأشار إلى دور التّفاؤل وأنثره في حياتهم الباقية حتى لا يكونوا عالةً على أنفسهم، وفي هذا التّفاعل دللّ الشّاعر على موهبته في احتضان البيئة التي طلع منها شاعراً، وقد هبّت عليه نسائم الأمكنة كلها، فنالت اهتماماً بإبداعه. وكان حافظ الشّيرازي – وباعتراف الدكتور طه حسين – لم ينل من الاهتمام عند المثقّفين العرب كما نال عند غيرهم من الشّعوب الأخرى، ولا سيّما الهنّد، وتركيا، وألمانيا، ولم يغفل في نقده لحكام عصره حين صار كهلاً فوصف سلوكهم مختصراً بأنهم أسرة نكدة الحال مفكّكة الأوصال، وفي هذا دلالة واضحة على أن المبدعين هم الأكثر فهماً لإدارة البلاد.