الغابات الحراجية.. النيران ترفع الغطاء عن التقصير الخدمي والإدارات “متهمة”؟
يبدو أن حجم الحرائق الأخيرة كان لافتاً، سواء المفتعلة منها أو التي حدثت من دون قصد أو نيّة جرمية لدى البعض ممن تسبّبوا بهذا المسلسل الذي اعتدنا عليه في هذه الفترة من كل موسم لقطاف الزيتون، نظراً لعددها وحجم المساحات المستهدفة، وحجم الخسائر المادية وكذلك الحراجية، حيث تشير التقارير المعتمدة من قبل دوائر الإطفاء والزراعة في طرطوس إلى أن عددها بلغ أكثر من خمسين حريقاً كبيراً خلال أقل من أسبوع فقط، شملت معظم مناطق المحافظة ومواقعها الحراجية من غابات الصنوبر والسنديان والخرنوب، إضافة لكروم الزيتون وغيرها، مما أدى إلى إلحاق الأذى والضرر بمئات الدونمات من هذه الأراضي، ولكن لو وسّعنا الدائرة قليلاً لاكتشفنا حجم التقصير وسوء التخطيط والإدارة الفاشلة لأهم مرفق زراعي يشكّل ثروة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، لم توفق الوزارات المعنية بإدارته الإدارة الرشيدة والحكيمة بهدف حمايته وتوريثه للأجيال القادمة، فتحوّلت هذه الثروة، رغم حجمها وغناها بالأشجار الباسقة والمعمّرة دائمة الاخضرار منها في لحظة طمع أو ربما حقد في مكان ما، إلى وقود أكل الأخضر واليابس ولم يرحم منازل وأشخاصاً عاشوا حياتهم بخيراتها ونعيمها.
غياب الاستراتيجية المتكاملة
بعض المهندسين المتحمّسين والغيارى على هذه الثروة الكبيرة، أشاروا إلى أن العديد من أطروحات ومشاريع التخرّج حفلت بعرض أفكار ورؤى إستراتيجية لحماية الغابات والمواقع الحراجية في بلادنا، ومنها أنظمة الإنذار المبكر للإبلاغ عن الحريق وكيفية التعامل معه في لحظة مبكرة قبل تحوّله إلى كارثة يصعب السيطرة عليها وقبل فوات الأوان، كما يحدث حالياً وكما حدث في سنوات سابقة ولاسيما في محميات غابة سرستان والجوبة وغيرهما الكثير، حيث تحوّلت مساحات واسعة إلى جبال جرداء تصفر فيها رياح سوداء وهي التي كانت لعقود مبعثاً لنسمات جبلية منعشة بفضل هذا التنوع الحرجي الجميل ومقصداً لكل زائر، ولكن بقيت هذه الرسائل حبيسة الأدراج ورهينة توفر الإدارات المسؤولة. ويقول هؤلاء المهندسون ممن استشعروا الخطر مبكراً: إننا نشهد كل عام على موسم من الحرائق المفتعلة، ولكن بالمعالجات التقليدية والبسيطة نفسها، بعيداً عن استخدام وسائل وأدوات استخدمتها العديد من الدول بغضّ النظر عن إمكانياتها المادية، ومنها أيضاً وسائل الإطفاء كالطائرات المخصّصة، وكذلك توفر صهاريج سريعة التنقل والحركة وسط الغابات والطرق التي تؤدي مهمتها بسهولة إلى أصعب الأماكن وأخطرها من حيث التعامل مع كافة مستويات الحرائق وشكلها، وهذا ما نفتقده للأسف في بلدنا حتى تاريخه رغم كل الجهود المبذولة من قبل رجال الإطفاء والمكلفين بحماية الغابات من عمال زراعة طرطوس، وما قد يتعرّضون له من أذى وضرر وربما من تهديدات، كما يحصل حالياً من قبل جماعات تمتهن التحطيب والمتاجرة به، إلا أن واقع الأمر لا يمكن معالجته بهذه الطرق “القاصرة”، مع الإشارة إلى أن معظم سيارات الإطفاء يمكن تجهيزها كضواغط سيارات النظافة محلياً، وبالتالي لا حجة لرصد مبالغ بالعملة الأجنبية، حيث تؤكد كل المعلومات أن مدينة عدرا الصناعية يمكن أن تقوم بهذه الأعمال الصناعية فيما لو طُلب منها ذلك، وكذلك تفعيل دور رجال الإطفاء وتزويدهم بالمعدات والوسائل التي تضمن الوصول السريع لأي حريق، والاهتمام بظروف عملهم الشاق والصعب ومنحهم بعض المزايا التي يستحقونها وهم محرومون منها بحكم القانون أو التطبيق بحكم الاجتهاد والتفسير المغلوط، وكذلك إعادة النظر بقانون الحراج الحالي القاصر ومنح المرونة في تطبيقه بحيث نحقّق الكثير من المزايا!.
خطوط النار
تشير المعلومات التي حصلت عليها “البعث” إلى عدم رصد أي مبلغ بشكل حقيقي، ولاسيما خلال السنوات العشر الماضية وبعيداً عن الأرقام الخلبية التي عادة ما نطلع عليها عند عرض الخطط السنوية لمصلحة شق أو تعبيد الطرق أو ما يُعرف بخطوط النار، مع أنه تمّ شق العديد منها منذ أكثر من ثلاثين سنة، ومع الإهمال عادت لوضعها السابق وبات من الصعوبة المرور عليها نظراً لغياب الصيانة الدورية وإعادة فتحها كلّما دعت الحاجة، والتي غالباً ما تمنع التعليمات الوزارية تعبيدها وتجهيزها لجهة تعبيدها بحجة منع الوصول الآمن للغابات من قبل ضعاف النفوس والاعتداء عليها بكل سهولة، وهذه أيضاً إحدى الطرق القاصرة المعتمدة لدى وزارة الزراعة، ومنها تأمين نقاط للحراسة والمراقبة التي ترسم ألف علامة استفهام حول وجود العناصر المولجة بالحراسة وجدوى المخافر، وعدم تجهيزها بالوسائل المطلوبة وتوفر سيارات للإطفاء وحتى جرارات صهاريج المياه، ولاسيما في المواقع البعيدة عن مركز الإطفاء الرئيسية.. وغيرها، وتضيف المعلومات أنه مع كل سنة مالية أو عند إعداد خطط الموازنة يتمّ الإشارة لرصد مبلغ لتنفيذ الطرق، ولكن يتمّ تدوير الرصيد أو نقله لأبواب أخرى بشكل فاضح ومريب؟!.
إعادة النظر
ولفتت المصادر في محافظة طرطوس إلى أهمية تحقيق شراكة بين مديريات الزراعة والخدمات الفنية وفوج الإطفاء ومديرية الجاهزية في المحافظة، بغية وضع خارطة متكاملة لدراسة واقع الطرق الزراعية وخطوط النار وتجهيزها بكافة الوسائل، ومنها تنفيذ وشق الطرق وتعبيدها بما يحسّن من مستوى الخدمات للأراضي المجاورة للحراج، ولاسيما أن معظم الحرائق التي حدثت كانت مجاورة أو بجانب الأراضي الزراعية، ومع ذلك وبسبب عدم وجود طرق زراعية معبّدة أو حتى مجهزة فنياً فقد تعذّر وصول سيارات الإطفاء إلى مواقع الحريق مما أدى لاستفحالها وصعوبة السيطرة عليها وتركها لقدرها وإمكانية تغيّر مسار الرياح، وبالتالي نضمن الحماية الحقيقية لغاباتنا من خلال منع التعدي وضبط المخالفين الذين يقومون بأعمال التحطيب بشكل غير مشروع.
زراعة طرطوس توضح
رغم كل الكلام عن التقصير في عمل الجهات المعنية بالسيطرة على الحرائق في وقتها، إلا أن هناك جهوداً تُبذل رغم ضعف الإمكانيات وقلّة عدد المكلفين بحماية غاباتنا، حيث اعتبر حسن ناصيف رئيس دائرة الحراج في زراعة طرطوس أن ضعف الإمكانيات لا يعني بأن هناك تقصيراً بالمعنى، وإنما الجهود المبذولة قد لا ترتقي لما نطمح إليه بسبب محدودية الإمكانيات. وأشار إلى أنه يوجد خمسة مراكز لحماية الغابات في ريف طرطوس، إضافة لتشكيل 24 فرقة لإطفاء الحرائق في هذه المراكز وبعض المراكز الراجلة في كل من النبي متى والنبي صالح وسرستان وبانياس، فضلاً عن وجود 21 مخفراً حراجياً وعدد من أبراج المراقبة وعددها 14 برجاً موزعة على كامل مناطق المحافظة مزوّدة ببعض الإمكانيات المتاحة من مناظير وأجهزة اتصال. وطالب ناصيف بزيادة عدد مراكز الحماية لتشمل كافة المناطق وتزويدها بالمعدات والآليات اللازمة من صهاريج إطفاء بسعات مختلفة وسيارات نقل عمال وآليات ثقيلة وعمالة دائمة، إضافة إلى أهمية نشر الوعي بين المواطنين بضرورة تنظيف الأراضي بصورة صحيحة ومنع حرق المخلفات الزراعية بصورة عشوائية، وتنظيف جوانب الطرقات من قبل البلديات والفعاليات صاحبة الشأن، وزيادة أطوال وعرض الطرق النارية المشقوقة وفقاً لكل موقع ومساحته، وفصل المواقع الحراجية عن العقارات الزراعية والمناطق المأهولة.
وبخصوص الطرق الزراعية والحراجية قال ناصيف: تتزايد أهمية الحاجة لشقّ طرقات مختلفة لما لها من دور في إطفاء الحرائق، وهنا لا بد من توفر تنازل من أصحاب العقارات الزراعية لشق الطرقات التي تمرّ بأراضي المواطنين ليتمّ الوصول إلى المواقع الحراجية. ولفت إلى أن خطة الشق المقرّرة لهذا العام تبلغ 7 كم وخطة التعزيل 119 كم، واقتراح شق طرقات بمسافة 310 كم. أما الحديث عن المواقع المحروقة فقد أشار إلى أنه تعود لمديرية الزراعة حصرية استثمار هذه المواقع وقطع الأشجار المحروقة منها، وأي مخالفة تتعرض للمساءلة القانونية، حيث يُحال المخالف للقضاء بموجب ضبوط حراجية، منوهاً بالتعاون الكبير مع الجهات المعنية الأخرى من رجال الدفاع المدني والإطفاء، وكذلك المجتمع الأهلي في تقديم الدعم بكافة أشكاله، مشيراً إلى أن عدد الحرائق الحراجية لغاية تاريخه منذ بداية العام بلغ 95 حريقاً حراجياً بمساحة 1162 هكتاراً، كما تمّ تسجيل 514 حريقاً زراعياً.
توقيف 15 شخصاً
بحسب مصادر قيادة شرطة طرطوس وعدلية المحافظة، فقد تمّ توقيف نحو 15 شخصاً على ذمة التحقيق، كما تجري التحقيقات لمعرفة مدى ضلوع هؤلاء الموقوفين في إحداث هذه الحرائق وتوفر النيّة الجرمية لديهم لكي ينالوا الجزاء العادل، نظراً لما تسبّبت به هذه الحرائق في المنطقة من كوارث بيئية وزراعية، إضافة للأضرار المادية للمواطنين.
كلمة لا بد منها
مهما تعالت الأصوات الصادقة المطالبة بحماية ثرواتنا من الغابات، ولما تشكّله من رصيد داعم للبيئة النظيفة وما توفره من مناخ منعش في منطقتنا التي تمتاز بها، إلا أنه ومن دون وضع الاستراتيجية التي سبقتنا إليها دول منذ عقود وليس سنوات، فسوف نبقى نردّد الأصوات نفسها مع كل موسم حرائق، سواء بفعل الحرارة المرتفعة أو الرياح الشديدة أو التي تحصل بفعل فاعل بسوء نيّة أو من دون قصد، وبالتالي سوف نبقى شاهدين على جبالنا الخضراء وهي تبكي تعريها وضياع ما وهبه الله لنا من نِعَم الطبيعة الجميلة الدائمة الاخضرار والمتنوعة كلوحة مبدعة، فهل يُعاد النظر بكل ما قصّرنا به رحمة بغاباتنا وثروتها الغنية؟!.
لؤي تفاحة