رواية غوبلز!
د. نضال الصالح
في الحديث الشريف أنّ آية المنافق ثلاث: إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائتُمنَ خان. ولوزير الدعاية السياسية في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، “غوبلز”، قوله: “اكذبْ حتى يصدّقك الناس”.
بين الحديث والمقولة مشترَك عن الكذب، وبينهما ما بينهما من المُختلف في القصد والدلالة، وقبل ذلك في القيمة مرجعاً إنسانياً إذا جازت نسبة “غوبلز” إلى جنس الإنسان حقيقةً لا هيئةً فحسبُ، ثمّ وعياً بقيم الحقّ والخير والجمال إذا جازت نسبة المقولة إلى أيّ من القيم. تلك المقولة التي مثّلتْ، ولمّا تزل، العلامة الفارقة لهمروجة “الربيع العربيّ”.
عشر سنوات مضت متخمة بالكذب ومرادفاته في غير مجال وعلى غير مستوى. ومِن ذلك مَن تمّ إلحاق صفة “المثقّف” به، ومَن جهرت تلك السنوات بأنّ “غوبلز” ليس سوى تلميذ في مدرسته، أو مريد في حلقته، أو حمْل وديع في غابته. فإذا كانَ ممّا “يؤثر” عن “غوبلز” أنّه كان من المعارضين لعضوية “هتلر” في الحزب النازيّ، ثمّ سرعان ما أصبح من أنصاره وأحد موظفيه، فإنّ غير قليل ممّن ألحقت به هذه الصفة، أي “المثقّف”، ظلّ لعقود يصدّع الرؤوس بعلمانيته، ثم سرعان ما صارَ “إسلامويّاً” أكثر من “الإسلامويين”، و”جهاديّاً” أكثر من “الجهاديين”، و”وهّابيّاً” أكثر من “الوهابيين.
وإذا كان “غوبلز” وصِفَ بأنّه مؤسس فنّ الدعاية السياسية بلونها الرماديّ، فإنّه يمكن وصفُ غير قليل من أولئك “المثقفين” بأنّه مؤسس فنّ “الكلمة” بلونها الحربائيّ، فعلى امتداد السنوات العشر صحّ في ذلك الـ”بعض” ما كانَ الإمام عليّ قال في عجز بيت له: “إذا الريحُ مالتْ مالَ حيثُ تميلُ”، فبرع في التقافز من موقف إلى موقف، ومن ثمّ في إيهام فقراء المعرفة في أنّ موقفه هذا هو الحقّ، ومن ثمّ في أنّ موقفه النقيض هو الحقّ أيضاً. وإذا كان “غوبلز” حصل على شهادة الدكتوراه في الأدب، عن الدراما والرومانسية! ثمّ قال قولته الأكثر شهرة في العداء للثقافة: “كلّما سمعتُ كلمة مثقّف تحسستُ مسدّسي”، فإنّ غير قليل من أولئك “المثقفين” لم تحصنّه شهادة الدكتوراه التي “حملها”، حقيقة أو زيفاً، ضدّ أهوائه وشهواته، فأمعنَ في الضلالات، حتى كادت الضلالة تداري وجهها حياء من غلوّه ومغالاته في الضلال، وفي التضليل.
وإذا كانَ ممّا عُرف عن “غوبلز” رغبته في أن يكون كاتباً ذائع الصيت، فكتب رواية اسمها “ميخائيل” لم تتجاوز حدود الأقربين إليه، فإنّ غير قليل من “الغابلزة”، إذا جاز الجمع، من كتّاب الرواية، من بعض السوريين والعرب، وجد في أكذوبة “الربيع العربيّ” تعويضاً له عن خساراته في المشهد الروائي المحلّي أو العربيّ. وإذا كان “غوبلز” أنهى حياته بالانتحار، شأن شيخه “الفوهرر”، فلا بدّ أنّ هؤلاء “المثقفين” فعلوا ذلك على الرغم من أنهم لمّا يزالوا على قيد الحياة.