ثقافةصحيفة البعث

بين فتنة الشعر وإغواء السرد

يؤكد معظم النقاد أننا في زمن “تداخل الأنواع” الإبداعية الكتابية، والبعض يصرّ على أنه عصر الرواية بامتياز، لأنها تفتح الباب أمام الاحتمالات الجمالية التي يمنحها القصّ، بينما أدوات الشعر التكثيف والتقاط اللحظة الوامضة وهو ينتمي لزمن الانفعال اللحظي ويؤرّخ الانفعال الممزوج بالحدث على اعتبار أن الشعر بناء في اللغة، بينما تتمطى الرواية بهدوء مستكين لمراقبة الحدث أو اختراعه عبر سياقها لتجعل منه محوراً وحياة محاذية للواقع المعاش، وتُعرف بأنها “كتاب الحياة” كبناء في الزمان والمكان.

اختلفت الآراء بين مؤيّد للزمن الروائي والمؤكد على خلود الشعر، مجموعة شهادات من كتّاب وشعراء  ونقاد عرب أضاؤوا على الموضوع، فالشاعر والناقد العراقي علاء حمد تحدث تحت عنوان “الحالمون باليأس” بالقول: ربما هذه التسمية لا تليق بشكل دقيق ببعض الشعراء الذين تحوّلوا من النصّ الشعري إلى النصّ الروائي، ولكن في حالة التجنيس نلاحظ أن الميزة الشعرية المؤثرة بشكل أسرع، لها خطواتها وعناصرها الخاصة، فعندما أقرأ للماغوط قصيدة تثيرني المتعة الشعرية والثقل الدهشوي في نصوصه أكثر من غيره من الروائيين، فيما لو تحوّلت القصيدة نفسها وكتبها روائي، سوف نلاحظ أن المتعة تتلاشى، وكذلك الرواية، ولو رجعنا للوراء قليلاً وتذكرنا زعيم المدرسة السريالية أندريه بريتون الذي كتب الرواية، نرى أنه لم يتخلّ عن كتابة النصوص الشعرية (أندريه بريتون: نادجا)، وأعتقد هي الرواية الوحيدة التي كتبها في زمانه، أما من الناحية الزمنية، فالعامل الزمني واحد (أعني البعد الزمني للجنسين)، وليس هناك من تغيير كذلك بالنسبة للمكان، والذي نضعه من خلال بعد المسافة وتقديرها، أي نضع المكان على المكان. لا أستطيع أن أقول في التحول الجاري من الكتابة الشعرية إلى الكتابة الروائية بأن هناك فشلاً في جنس معيّن، ولكن معظم الروايات التي تصلنا هي عبارة عن حكايات سريعة أو مذكرات كتبها (الشاعر) لكي يلحق بالركب الروائي، مسبباً فجوة أخرى بين الجنس الروائي والجنس الشعري. لو أخذنا بعض العناصر المكونة للنصّ الشعري الحديث سنلاحظ عدم توفر هذه العناصر في الجنس الروائي، مثلاً: عنصر الدهشة يؤدي إلى الذهول من خلال الرجّة الوجدانية، وتصل حدّ الاستغراب لتلك العجائبية والمشهد المختلف والاستغراب من عناصر الدهشة الشعرية، وبما أنّنا مع الصورة الشعرية ودهشتها، فهي تأسيس غير منفصل عن الأسلوب الدهشوي والتلاعب بذهنية الآخر، فمرة تكون دهشة فلاشية تصل إلى أعلى ذروتها من الضوء الحاد ومرة دهشة ملفتة، كالتفاتة نظرة الطائر، لذلك نلاحظ أنّ المتلقي يلتفت إلى مقطع من المقاطع دون سواه، أما إذا كان المقطع على شكل نصّ بكامله، فلا نستغرب تلك الالتفاتة نحو كامل النصّ بدهشته المذهلة، ومن خلال هذا المثال أعتقد أنّ الزمن الشعري مازال بخير وبقوة أيضاً.

الشعر قد يعاند أحياناً

الشاعر الفلسطيني نمر سعدي يرى أن “الشعر قد يعاند أحياناً”، هناك شعراء كبار اتجهوا للسرد، وربما يستعصي الشعر بعد سن الأربعين، فهو صنو الفتوة وابن العواصف والتقلبات، بينما الرواية تتطلّب مزاجاً هادئاً وحياة مستقرة بعيداً، لأن الرواية أيضاً خزانها الطمأنينة وراحة البال ربما، والتحوّل الشعري إلى السرد هو مسألة عفوية تحدث أحياناً بعد أن يجرّب المبدع الشعر ويتمرّس به، ويكتب المقالة والفكرة وسواها ويتحوّل للرواية، عدد قليل من الشعراء الكبار استطاع تجديد نفسه بعد سن الـ٦٠، أعتقد أن الكثير من الشعراء اهتموا بالرواية، سميح القاسم شاعر كبير له رواية وحيدة ربما لم يكتب سواها، ومحمود درويش حاول التجربة في كتابه السردي “ذاكرة للنسيان”، لكن يبقى الميل للتجريب، وللشاعر هوايات أخرى يجمعها بالإتقان كجبران خليل جبران الذي نحت ورسم، أو بورخيس في الكتابة عبر الشعر الرواية والنقد، ويبقى على الكاتب أياً كان مجال إبداعه أن يعمل بجد وعمق وإتقان.

من الرواية إلى الشعر

الشاعر والناقد العراقي قاسم مجيدي قال: أنا أرى موجة معاكسة من الرواية إلى الشعر، فهناك قصاصون اتجهوا للشعر، وجانب آخر مهمّ أن الجوائز أحد المحفزات الكبيرة لعالم الرواية والمبدع العربي بغالبيته معدم مادياً، مما يجعل الرواية محفزاً معيشياً كجائزة البوكر التي حصل عليها (أحمد السعداوي) أو(خوخة الحارثي) ومن ثم سحبت الموجة الشعراء، نحن أمام إشكالية حقيقية هي عدم الاهتمام بالمهرجانات الشعرية، فجائزة مهرجان القصة أو الرواية تعادل مبلغاً مادياً لابأس به، بينما يحصل الشاعر على شهادة مشاركة وتكريم فقط، وهي إشكالية كبيرة مهما تغاضينا عن تبعاتها.

ليزا خضر شاعرة وروائية سورية تقول: لست مع فكرة تراجع الزمن الشعري بل هو موج بحره يتلاطم لغزارة الماء، لقد تغيّر شكل الزمن فقط إثر دخول أنفاس شعرية جديدة واتسعت أرضه، حتى لربما تلاقت مع أصناف السرد وولدت بينهما قصيدة النثر. أما عن الرواية فقد نشطت فعلاً في الآونة الأخيرة لكن ليس على حساب الشعر، وإنما بسبب الكمّ الهائل من الأحداث والزلازل وولادات الأفكار، مما دفع بعض الشعراء لأن يقول أكثر مما تتسع له رقعة الشعر، فانتقل ربما إلى أرض الرواية الشاسعة، لكن يبقى لكلّ من الرواية والشعر بريقه الخاص ولا يتعدى أحدهما على الآخر بل يدمجان اللون ليولد قوس قزح الأدب.

من جهتها رأت الشاعرة والروائية السورية غادة فطوم أن لكل جنس من الأجناس الأدبية قيمته، فالشعر له مكانته والقصة لها مكانتها والرواية أيضاً لها مكانتها والنقد والترجمة والدراسات والمقالات، جميعها تصبّ في خانة الإبداع أو تخرج من ينبوعه، لكن في الظروف الراهنة ونتيجة تعويم العولمة والانتشار السريع لها عبر وسائل التواصل، وقد ساعد النت على هذا الانتشار، اتجهت الغالبية لكتابة الرواية لأنها تجسّد تاريخاً حتى لو كانت ذاتية، ربما الشعر انحصر في الذاتية أكثر لأن كل شاعر طرح تجربته، والقصيدة تكون ابنة اللحظة أو الحالة، لكن الرواية تعيش أكثر لأنها تجمع كل الحالات الاجتماعية والعاطفية والسياسية وتطرحها بصيغة يظنّ كل كاتب أنه هو من عاصر تاريخها، أما القصيدة التي تتمتّع بالوجدانية والذاتية فتخصّ حالة معيّنة، إلا ما كُتب للوطن يبقى منتشراً، أيضاً لعبت دور النشر دوراً كبيراً في ذلك، فهي تتجه لطباعة الرواية والدراسات والترجمة أكثر من ديوان الشعر، لكن يبقى للشعر مكانته وللرواية مكانتها وللدراسات أيضاً والترجمة والمقالات، جميعها فن يكمل بعضه البعض.

وفي الختام يبقى الباب مفتوحاً على المزيد من الحوار والاختلاف والاتفاق لمصلحة الإبداع.

سمر محفوض