في ذكرى تأسيسها.. هل فقدت الأمم المتحدة مصداقيتها؟
د. معن منيف سليمان
منذ نشأة منظمة الأمم المتحدة أصبحت مسؤولة عن تحقيق أهدافها التي تأسّست من أجلها، ولعل أهمها: حفظ السلم والأمن الدوليين، وتحقيق التعاون الدولي في جميع المجالات ضمن إطار المساواة بين الدول، ونبذ المنازعات الدولية وحلّها بالطرق السلمية، وعدم استعمال القوة في العلاقات بين الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولكن هل نجحت فعلاً الدول الكبرى بالالتزام بالمبادئ التي نصّ عليها ميثاق الأمم المتحدة؟.
برز كيان الأمم المتحدة رسمياً إلى حيّز الوجود في 24 تشرين الأول عام 1945، حيث تكاملت التصديقات اللازمة على ميثاقه في هذا اليوم التاريخي، فأصبح نافذاً منذ ذلك الحين، وأصبح العالم يحتفل بيوم الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول من كل عام. سعت الدول الكبرى التي كانت مسيطرة على الشؤون الدولية في القرن الماضي إلى ترسيخ السلام الدولي عن طريق المؤتمرات الدبلوماسية والاتفاقيات الدولية، ثم من خلال تثبيت عدة مبادئ سياسية تحكم كيفية نظرتها للشؤون الدولية، مثل مبدأ توازن القوى، الذي أصبح المبدأ الذي بات يحكم العلاقات الدولية حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها جرى إنشاء عصبة الأمم المتحدة خلال مؤتمر فرساي عام 1919، فتغيّر المبدأ الذي كان يحكم العلاقات الدولية في السابق، وبرز مبدأ الأمن الجماعي، الذي يستند إلى فكرة أساسها أن أمن أية دولة عضو في العصبة هو جزء لا يتجزأ من أمن سائر الدول الأعضاء الأخرى، وأن أي تهديد لها هو تهديد لجميع الأعضاء الذين يجب عليهم التعاضد والمؤازرة لدفع خطر أي اعتداء عليها.
ولعصبة الأمم مبادئ نصّ عليها ميثاقها أهمها: تشجيع السلام والمحافظة عليه، وتجنّب الحروب وتعزيز لغة التفاهم بين الدول الأعضاء، وتسجيل جميع الاتفاقيات وإيداعها لدى العصبة، ومعالجة جميع القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تهمّ الإنسانية جمعاء.
كانت عصبة الأمم فاتحة عصر جديد بدأ بإنشاء منظمة دولية سياسية ذات طابع عالمي لها أجهزة دائمة لأول مرة في تاريخ البشرية، ولكن مع ظهور عقائد متطرفة في أوروبا ومحاولتها تغيير الأوضاع القائمة آنذاك، وطرحها شعارات عمادها التعصب الفكري والاجتماعي والقومي، التي تبنتها النازية والفاشية، ونتيجة السياسات والأساليب التي انتهجها أصحاب هذه العقائد، ما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية عام 1939، بدا العالم أكثر حاجة إلى التفكير بإيجاد منظمة دولية جديدة تحلّ محل عصبة الأمم التي لم تعد قادرة على تحمّل أعباء المهام التي أنيطت بها فانهارت فور اندلاع الحرب.
وهكذا بزغت فكرة الأمم المتحدة، فتداعت الدول المتحالفة ضد ألمانيا وإيطاليا، بقيادة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق، إلى عقد اجتماعات في أثناء الحرب، كان من أبرزها الاجتماع الذي عُقد في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية ضمّ ممثلي ست وعشرين دولة، بهدف تشكيل جبهة عالمية موحدة ضد دول المحور، وقد نصّ على ضرورة إنشاء منظمة عالمية في أقرب وقت ممكن لتحقيق الأمن والسلام في جميع أنحاء العالم، وكانت هذه أول مرة يظهر فيها اسم الأمم المتحدة، وانضمت في التوقيع على بيان الاجتماع بعد ذلك إحدى وعشرون دولة كان من بينها خمس دول عربية. وتلا اجتماع واشنطن اجتماع آخر عُقد في موسكو، عاصمة الاتحاد السوفييتي السابق، في تشرين الثاني عام 1943، ضمّ كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق وبريطانيا والصين، وقد اتفق الجميع على إنشاء هيئة عالمية تقوم على أساس المساواة في السيادة بين جميع الدول المحبة للسلام، مع فتح الباب لانضمام دول جديدة بغضّ النظر عن حجمها من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين.
وبعد ذلك اجتمع الحلفاء في طهران خلال شهر شباط من العام نفسه، حيث استمرت المشاورات بين الدول الكبرى الثلاث: الاتحاد السوفييتي، وأمريكا، وبريطانيا، لبلورة فكرة إنشاء المنظمة الدولية والتأكيد على دورها في حفظ السلام والأمن الدوليين. وفي عام 1944، عقد ممثلو الاتحاد السوفييتي وأمريكا وبريطانيا والصين اجتماعات في دومبارتون أوكس بواشنطن، وقد أسفر عن وضع مجموعة من المقترحات التفصيلية حول صيغة مشروع ميثاق المنظمة العتيد، التي اتخذت فيما بعد أساساً للمناقشات التي دارت في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي عُقد ما بين 25 نيسان و26 حزيران عام 1945، حيث أفضى إلى التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة من قبل إحدى وخمسين دولة مستقلة، معلناً بذلك ميلاد تنظيم دولي جديد بات يعرف باسم “الأمم المتحدة”، وتكاملت التصديقات اللازمة على ميثاق الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول عام 1945، فأصبح نافذاً منذ ذلك الحين، حيث برز كيان الأمم المتحدة رسمياً إلى حيّز الوجود، ويحتفل بيوم الأمم المتحدة في 24 تشرين الأول من كل عام.
وفي كانون الثاني عام 1946، عقدت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة أولى جلساتها في مدينة لندن وقرّرت اختيار مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية مقراً دائماً لها، وقد حرّر الميثاق بخمس لغات هي: الصينية، والانكليزية، والفرنسية، والإسبانية، والروسية، وهي اللغات الرسمية للأمم المتحدة، وقد أضيفت العربية لغة رسمية سادسة منذ 1974. وتنتمي إلى منظمة الأمم المتحدة اليوم كل دول العالم تقريباً، إذ يبلغ عدد أعضائها /191/ دولة، وعندما تصبح الدول أعضاء في الأمم المتحدة فإنها توافق على القبول بالالتزامات المنصوص عليها في ميثاق المنظمة.
وقد تكوّنت الأمم المتحدة من عدة أجهزة وهيئات أنيطت بها مهام مختلفة، تأتي في مقدمتها الجمعية العامة التي تتألف من مندوبي جميع الدول الأعضاء، ويأتي بعدها مجلس الأمن الذي يتألف من دول دائمة العضوية وهم: أمريكا، والاتحاد السوفييتي السابق، وبريطانيا، والصين، وفرنسا، وعشرة آخرون تنتخبهم الجمعية العامة لمدة سنتين، كما تتكوّن من محكمة عدل دولية، وأمانة عامة يترأسها أمين عام يساعده عدد من الموظفين، أما مقار أجهزة المنظمة وهيئاتها الست الرئيسية فتقع مقار خمسة منها في المقر الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك، وهي الجمعية العامة، ومجلس الأمن، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوصاية، والأمانة العامة، أما مقر الجهاز السادس وهو محكمة العدل الدولية فيقع في لاهاي بهولندا.
إن العالم اليوم يتطلّع في ظل مبادئ منظمة الأمم المتحدة إلى هذه المنظمة من أجل أن تشغل دورها المأمول في حفظ السلم والأمن الدوليين، وتحقيق الاستقرار في مختلف بقاع الأرض، كما أن ميثاقها، الذي بعث الأمل في نفوس الشعوب المقهورة التي كانت ترزح تحت وطأة الاحتلال الظالم، يؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها واتخاذ كافة التدابير الملائمة للتحرّر، وهو اعتراف رسمي بحق الشعوب في مقاومة كافة أشكال الاحتلال في سبيل التحرّر من قبضة المستعمر والتخلّص من أغلال الاحتلال والاستعمار. غير أن هذا الميثاق شهد خروقات عديدة ومتكررة من جانب “إسرائيل” كونها كياناً انفلت من عقاله وخرج عن ميدان الشرعية الدولية، فلا تلتزم بقرار ولا تتقيّد بقانون دولي، يحدوها إلى ذلك الدعم المطلق واللا محدود من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ما جعل المنظمة تعاني من مشكلة حقيقية تكمن في تدخل هذه الدول في قراراتها، وما ينجم عن ذلك من ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين في معالجة الكثير من القضايا الدولية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، ما يفقد المنظمة مصداقيتها في كثير من الأحيان!.