لعنة الجغرافية والتطبيع والصراع على الوعي
منذ نحو أسبوع استعاد البوليفيون بلادهم من اليد الأمريكية صارخين لا للهيمنة، لا لاستباحة البلاد، لا لنهب ثرواتها الطبيعية. منذ يومين استعادت “تل أبيب” لاءات الخرطوم الثلاثة الشهيرة: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض، واستبدلتها بـ “لا” واحدة لهذه الـ “لاءات” مجتمعة.
في الحالتين – رغم تناقضهما الواضح في المضمون، رفضت أمريكا الأولى ورحبت مبتهجة بالثانية، وتباعدهما المكاني في الجغرافية – برزت كلمات وعبارات، استُخدمت أمريكياً في حالتي الرفض والابتهاج، مثل الحرية، وضرورة إرساء الديمقراطية، وأهمية صنع السلام. ذلك كان غطاء لفظي في سياق الصراع على الوعي الشعبي في حالتي لاباز والخرطوم، فـ”الديمقراطية” حين تصدّرها واشنطن للخارج لا تكون، كما اعتدنا، إلا غطاءً شفافاً للنهب، وحين يتشدق بها بعض الدكتاتوريين المعروفين فلا تكون إلا مجرد “ترامواي تستطيع أن تستقلّه إلى المحطة التي تريدها، ثم تنزل منه”، كما قال “أردوغان” عندما كان رئيس بلدية إسطنبول. فيما “السلام” ليس إلا هدنة بين حربين كما يعلم الجميع.
جوهر الأمر كان، في الحقيقة، صراع مرير على موارد اقتصادية طبيعية، أو إنسانية، أو مواقع جيواستراتجية متقدمة، والكلمات التي يجب أن تتداول هنا، لتفسّر ما يحدث حقيقة، هي “الليثيوم”، أو ما يدعى بـ “النفط الأبيض”، والذهب والموارد الاقتصادية الطبيعية، إلى جانب “الحديقة الخلفية” لواشنطن، أو “القضية الفلسطينية” وضرورة خنقها سواء جغرافياً، حيث يمثل السودان معبراً جنوبياً إلى فلسطين، أو رمزياً، حيث تمثّل الخرطوم حالة الرفض للتنازل في الوعي العربي.
عالمياً يقال أن “الليثيوم” المتواجد اليوم بكثرة، سيزداد الطلب عليه لاحقاً بسبب التطور التكنولوجي المتزايد بسرعة فائقة، ويشرح الخبراء أن مستقبل الطاقة وما يرتبط بها من إنتاج تكنولوجي حول العالم، يعتمد على تكنولوجيا البطاريات. من يسيطر على الليثيوم يسيطر على هذا المستقبل، وعلى حجم تجارة يبلغ نحو 5.5 تريليون دولار بأسعار اليوم. أكبر مخزون غير مستخرج من معدن الـ«ليثيوم» موجود في بوليفيا، هنا نفهم نوع الديمقراطية المرغوبة هناك جيداً!!.. “أيلون ماسك” مالك شركة “تيسلا” التي تصنّع السيارات الكهربائية، وبالتالي “الليثيوم” شريان حياتها الأهم، أوضح الغامض حين غرّد على التويتر في شهر تموز الماضي رداً على من وصف إخراج ايفو موراليس من الحكم في “لاباز” بالانقلاب الأمريكي للاستيلاء على “الليثيوم” قائلاً: “تستطيع أميركا أن تحدث انقلاباً أينما أرادت، وعليكم أن تتقبّلوا الموضوع”.
في حالة السودان، لا يمكن، بالطبع، إنكار دور الموارد، والثروات، الاقتصادية الطبيعية، ومنها الذهب، لكن لا يمكن أيضاً إنكار دور الصراع على المورد الإنساني الأهم هذه المرة، وهو الوعي. “نتنياهو” كان واضحاً حين قال واصفاً تطبيع العلاقات مع السودان “يا له من تحوّل استثنائي! اليوم تقول الخرطوم نعم للسلام مع إسرائيل، نعم للاعتراف بإسرائيل ونعم للتطبيع مع إسرائيل”. جاريد كوشنر، كبير مستشاري ترامب وصهره، كان أفصح، وأفضح، حين وصف اتفاق التطبيع بأنه بداية “نقلة نوعية” في الشرق الأوسط، لأنه “يحمل أهمية رمزية” فـ”قرار الجامعة العربية بعدم الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود صدر في الخرطوم عام 1967″. هنا تحديداً خطورة التطبيع مع الخرطوم، لأنه سيستخدم، وقد بدأ ذلك، كسلاح استراتيجي، فعّال، في معركة الصراع على الوعي.
بالتأكيد، “الليثيوم” ليس السبب الوحيد لما تشهده بوليفيا، فهناك لعنة الجغرافية: قصة وقضية الحديقة الخلفية لواشنطن، أي الأمن القومي الأمريكي، كما أن الموارد الطبيعية، ومنها الذهب، والبشرية، ومنها الوعي، ليست السبب الوحيد أيضاً لفرض التطبيع مع “إسرائيل” على السودان، فهناك قصة وقضية تأمين الجبهة البحرية الجنوبية لـ “إسرائيل”، أي الأمن القومي “الإسرائيلي”، وبالطبع الشق الاستثماري “الترامبي” في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والأهم لعنة الإدارة السيئة لبلد أصبح يستجدي المعونات المالية، فيما كان، ولا زال، يعتبر سلة غذاء العالم العربي.
بيد أن بوليفيا، بوعي شعبي لافت، استعادت نفسها وثرواتها. على الأقل هي تحاول جاهدة مواجهة لعنة الجغرافية والموارد. السودان “فاز” من التطبيع بشطب اسمه من قائمة الإرهاب، و.. مساعدات مالية شحيحة. هل يستحق الأمر ذلك!! الرهان على الوعي الشعبي… والصراع المستمر فقط لا غير.
أحمد حسن