ما من طاعة إلا وراءها معصية
هذا ما قاله المتصوّف الشهير “الحسين بن منصور” الملقب بـ “الحلاج”، فقاعدة التحذير وضعت، كما يبدو، للتوضيح بأن الكائن البشري قابل للسقوط في الشرور، وهذا تأكيد بأن طبيعته وطينته الأولى ذاتها مجبولتان وقائمتان على ذلك، وما التأكيد على وجوب الطاعة إلا إشارة مبطنة لهذا الأمر، فالنفس أمّارة بالسوء كما يقال، وهي بالتأكيد أمّارة بالخير أيضاً بدليل السلوك البشري نفسه القائم على هذه الثنائية لمفهوم الخير والشر النسبيين، وطلب الطاعة يشير إلى تلك الرغبات الإنسانية الغريزية المستترة التي تسعى للتحقق رغم الموانع أو من خلف ظهرها. وما هبوط “آدم” و”حواء” من جنة النعيم إلا مثال على ذلك، حسب السردية التوراتية المنقولة، الهبوط الذي حدث بسبب الغواية الأنثوية، وما تلا ذلك من عقاب تكفيري عن إثم المعصية التي سقط فيها آدم وحواء برفضهما للتحذير الإلهي بالأكل من الشجرة المحرمة، كما تقول الأسطورة، تلك الشجرة التي أوّلها الباحثون بأنها شجرة المعرفة، وهنا يلح على الذهن السؤالان الريبيان التاليان: هل كانت شجرة الشر هي شجرة المعرفة؟ ثم إذا كانت هي كذلك فلماذا تخشى الآلهة من تفتح عيون الكائن على المعرفة بدل تشجيعه عليها؟ وهنا يتفرّع سؤال ثالث هو: ألأنه سيكسر بذلك احتكار الآلهة للمعرفة، ما حتم طرده من جنة النعيم؟ وقد ركزت الرواية التوراتية الذكورية على دور الغواية الأنثوية التي تسببت بالمعصية والطرد من الجنة، والمقصود المتسببة بالمعرفة، الغواية التي مثّلتها الأنوثة المرجومة تاريخياً وأسطورياً من قبل الثقافة الذكورية المسيطرة، لكنها المشتهاة في الوقت نفسه بقوة من قبل الذكر، فحواء هي من وجهت انتباه آدم إلى شجرة المعرفة المحرّمة لتكسر بذلك احتكار الآلهة لها، فما إن أكلت منها حتى تفتحت عيناها على حقائق مختلفة، فأوعزت لآدم أن يأكل منها أيضاً، لتتفتح عيناه بدورها على حقيقة أخرى، وتتكشف حقيقة الخجل والاستحياء البشريين منذ تلك المعرفة، فكيف تُرجم من فتحت الأعين على المعرفة، بدل أن تقدّر وتعطى أعلى المراتب، والغريب هو أن توسم شجرة المعرفة التي كان للأنثى فضل كسر احتكار الآلهة لها بأنها شجرة الشر؟ وبعد الطرد من الجنة تبدأ الوعود بتقديم المغريات للكائن البشري إن هو أطاع في دنياه، وامتثل للتعاليم الدينية بأن يكافأ بـ “حور العين” في الجنة، وهذا ما أغرى “مرتزقة الربيع العربي” المتشبعين بمثل هذه الشعوذات كي يموتوا بكثافة على الأرض السورية، فهناك في الجنة الموعودة لن يحرم الرجل من تلبية شهواته، بل سيوهب طاقة كبيرة تعادل قوة ألف رجل، كما تقول بعض الروايات، إذاً، هي الشهوة الطبيعية المتعلقة بتكوين الكائن البيولوجي، والتي لم ولن تنقطع، ولم ولن يعتريها الملل على مر هذا التاريخ الثقافي الطويل، فهي طاقة الخلق والوجود التي تحرك الإنسان منذ وجد في هذه الحياة، المطلوب عقلنتها وتوجيهها بالاتجاه الصائب وحسب.
ويأتي كتاب “ألف ليلة وليلة” الضخم ليضع الأمور في المنحى نفسه، حيث نرى سيطرة خطاب الجنس على غيره الذي يمثّل نتاجاً للمخيلة الشعبية في كسر المحرمات، وهو أشبه بحلم جماعي في اختراق الممنوع وكسر التابوات، وكذلك هو شأن خطاب المتصوفة، حيث نرى خطابهم ينبئ بمقدار ما يحجب، إذ يكثر الحديث عن الغزل والعشق والوجد، وما الغزل سوى الحديث في الجنس ومحوره النساء، فإذا أغرق في الهوى فهو كناية، والعشق لغير المرأة مجاز، كما يقول الدكتور “علي حرب” في كتابه “خطاب الهوية، سيرة فكرية”.
فالتقوى التي يدعيها الكثيرون لا تزيل الفجور من السلوك أو من جوانية النفس، بل تهذّبها إخفاء وتسترها، وهي بذلك لجام ولباس تتوارى فيه المعصية حسب عبارة الحلاج السابقة التي يمكن أن تأخذ بعدين: الأول زماني، أي المعصية تسبق الطاعة فتكون الطاعة حينئذ بمثابة تكفير عن المعصية، والبعد الثاني مكاني، حيث الفجور والتقى ليسا فقط طورين من أطوار النفس يعقب أحدهما الآخر وينفيه، بل هما متجاوران أحدهما ظاهر والآخر مستتر، وهكذا يصل الدكتور “حرب” لنتيجة بأن من نتهمهم بالضلالة هم الوجه الآخر لنا، واختلافنا عن الغير هو اختلافنا عن أنفسنا بوجه ما، إذ ما نكرهه في الآخر كامن فينا، وما يعجبنا من أنفسنا نجده قابعاً فيه، فهو بعضنا ونحن بعض منه، وهو ما كناه أو كان يمكن أن نكونه أو ما قد نكونه، وما وصفناه بوصف إلا كنا ذلك الوصف.
أخيراً نرى، حتى الخطاب الفلسفي يبدو متناقضاً وتخترقه الشقوق والفجوات، حيث ينفي ما يؤكده في الوقت نفسه، ويخفي ما يعلنه في آن، فهو يؤكد أن الخير ذاتي، والشر عارض، لكنه ينفي ذلك أيضاً، مؤكداً أن الشر ضروري من أجل الخير، إذ لا خير دون وجود الشر، وهكذا ينفي خطاب الفلاسفة الوحدانية فيما هو يثبتها، ويؤكد الثنائية الضدية فيما هو ينفيها، ولذلك صح قول الشيخ الأكبر “ابن سينا” بأن “النفي هو عين الإثبات”.
أوس أحمد أسعد