الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أبيض فاتح!؟

د. نهلة عيسى

جود الصغير ابن الثلاث سنوات ونصف، حفيد شقيقتي، يطالبني بالكتابة عن الأطفال، وعندما سألته: لماذا، هل لأنك طفل؟ رد علي ببساطة: لا.. أنا بس جود، لكن هناك كثير من الأطفال في سورية، والحقيقة أن ردّه قد صدمني، لأن ما قاله صحيح، هناك كثير من الأطفال في وطننا الحزين، ولكن ليس هناك على ما يبدو من يفكر بغدهم، لذلك اسمحوا لي اليوم أن أخرق كل قوائم الحساسيات الوطنية التي يضاف إليها كل ساعة، مئة ممنوع ومحرّم ومستهجن، بحجة متطلبات المرحلة وعدم المساس بالروح المعنوية للقابضين مثلنا على الصبر جمراً، لأنه لا بديل عن الجمر سوى الكذب، والادعاء أنه رغم العاصفة والتبعات المدمّرة للعاصفة، إلا أن “المبشر بالخير أن السماء الصافية”!؟.

اسمحوا لي، وأنا المغسولة مثلكم بفظائع عشر سنوات من الحرب والفقد والهول، بالظن وبعض الظن حكمة، في أيامنا الخراب هذه، أننا قد دخلنا في التداعيات الأسوأ للحرب، حيث لا شيء يستر “عظم” الوطن وعظامنا، سوى جلد جارت عليه كل عوامل التعرية غير المسبوقة، لدرجة  اختلاط صور الشهداء الذين قضوا وهم يدافعون عن الوطن، بصور من قضوا وهم يسرقون الوطن!!، بجد.. اسمحوا لي، وأنا مثلكم نصف أحبائي شهداء، وبعضهم في هجرة الخوف غادر، ومن تبقى منهم، برسم الموت كمداً أو برداً، أو برسم التشريد أو اللهاث المر خلف أنبوبة غاز أو ربطة خبز أو بضع ليترات وقود أو مازوت، أو علبة حليب لطفل لم يسعفه الحظ بعدم الولادة!؟. اسمحوا لي بالاعتراف أمامكم بما تعرفونه، وهو أن حالنا في تدهور، وأن اليومي والمُلح في حياتنا، سيغدو صعباً أكثر فأكثر، فاللحم الحي للوطن التهمناه، والموارد شحّت، وجمعية المنتفعين من وجع الوطن تتسع يوماً بعد آخر، وسماسرة بيعه أنقاضاً، باتوا أسراب جراد تفك بمناقير نهمها جراحنا المخدّرة بالألم المتواصل قطبة بعد قطبة، وتفك معها كل ياقات أخلاقنا وقيمنا، وتخلع عنّا براقع مجاملة، كنا نخفي خلفها الغضب مؤونة لعدو، فتاهت منا ملامح العدو!؟

اسمحوا لي، أن أقول لكم: رغم معرفتي أن كلامي هذا، شبيه بالذي يضع لنفسه وبنفسه، كرسي تحت حبل مشنقته، أن كل ما فات كان مجرد دورة أغرار، لوجع طويل.. طويل، وأن حمام السلام الذي نرقُب السماء لعودته، لن يحلّق فوق البحر قريباً، ولن يغسل أجنحته بأمطار شتائنا هذا، ولن يلتقط الحَبَ عن عشبنا المحروق، ولن ينوح أمام سجن أبي فراس الحمداني، لأن بندقية مأجورة تترصد حنجرته فوق مدينة أبي فراس الحمداني!.

اسمحوا لي، ونحن نغادر الخيبة إلى خيبة، ونغادر الخوف من العدو، إلى الخوف من القريب الحبيب، أن أخبركم أن يأسكم ليس هدفي، وأن نبش قبور تجلدكم ليست غايتي، كما أنني لست من هواة المركيز (دوساد) ولا يفرحني حزنكم، بل يشقيني أن الهوية التي كانت فخراً في كل الدنيا، باتت عائقاً بيننا وبين كل الدنيا، وأن الوطن الذي شرب الجميع من نبع خيره، ملأ سفهاؤنا وسفهاء غيرنا بئره بالحجارة!؟.

صدقوني، يأسكم ليس مطلبي، فأنا مجرد عابرة جرح متخمة بالجروح، تدق أبواب نومكم لتعانق كوابيسكم، ولتَحُلَ أَسر جوانحكم المكبلة بزعم الوهم، أن الوقت ليس الوقت، وأن الحرب ليست زماناً، مع أن كل الحروب من رحم واحد، وكل الأعداء سواء، وصدقوني، أن الضغط على جروحكم، هو وطء على جرحي، والسيف في ظهركم، سيفٌ في عيني، والوطن الذي تحبون، هو عشقي الأوحد، والبيت الذي تخافون عليه أول همومي، لأن كل بيوتكم بيتي، ولكن لا قيمة لصبر، ولا معنى لصمود، ما لم يكن موعد نهايته مرسوم كالساعة في أحداقنا، وكأمانة في أعناقنا، على الأقل، لأجل من ضحّوا وكرّموا السلاح والوطن بموتهم، وجعلوا استشهادهم نداء لنا للخروج من زواريب الصمت على التشليح والتشبيح والمزاودة، إلى شرفات الغد حيث الشهيد كقاسيون، وتجار الدم والوطن في السجون، فهل نسمع، هل نلبي النداء، وهل نكف عن الوهم أن للأسوَد درجات، وأن الأبيض فاتحٌ!؟.