مجلة البعث الأسبوعية

الخلود الحقيقي.. دورنا في هذه اللحظة أن نحصّن الراهن بما هو جميل!!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

بتلك الكلمات واجه الإله شمس صديقه جلجامش: “جلجامش!! أين تهيم على وجهك؟ الحياة التي تنشدها لن تجدها! لم يسلك أحد الفانين هذا الطريق، ولن يفعل ما دامت الريح تهب على البحر!”.

ها هو أنكيدو في رقدته الأخيرة، وجلجامش يدور حول جسده كالأم الرؤوم، لا يعرف كيف يبعد مسببات البلاء والفناء لجسد حبيبه ورفيق دربه! الدود الذي بدأ ينهش جسد أنكيدو كان نذير الخطر الكبير الذي هتف في روح جلجامش بحثاً عن سر الخلود والروح والأبدية.. كلنا نعرف كيف عبر الأهوال والمخاطر طوياً للأرض في رحلته الخالدة نحو أوتنابيشتيم، الحكيم، الخالد، القابع خلف بحار الموت.

الأسطورة تنتهي بحكمة نبيلة بأن الخلود الذي نشده جلجامش كان متاحاً بين يديه حين يعود ليبني ويتعلم، حيث يكون الطريق الأمثل لتخليد ذكره أن يشيد البنيان ويرفع صروح العلم ومناراته، فيصبح خالداً بذكره في نفوس وأحاديث ودعوات أهل أوروك جميعاً.

 

ما الغاية المرجوة؟

أن نبث في روح الحكاية الطفلية دائماً نفساً نبيلاً من العطاء ليكون الطفل قدوة؛ والسبيل الجميل ليكون الطفل نفسه قدوة هو الترويج دائماً، في حكاياته، للقدوة الحقة النبيلة. يكفينا أبطالاً خارقين عابرين للأخلاق والحدود من خيال الغير، يغزون به ليل نهار ثقافة أطفالنا، ونحن الذين نمتلك آلاف النماذج العملية التي سطرت أروع ملاحم البطولات والفداء والأعطيات، لتكون أيقونات حب ونضال وعطاء وخير، أناساً من لحم ودم ينتمون لهذه الأرض، وتنتمي إليهم، لا تصنّع في قصصهم ولا تكلف ولا عناء.. يكفي فقط أن نضفي عليها قليلاً من القداسة والخيال الخصب، لتكون قصصاً خالدة في مكتبة طفنا.

 

حراثة أرض الخيال

الثمرة السورية الأولى وهي تسقط في تربتها، لتنشب جذورها في التربة كالمشط الذي يتغلغل في شعر المحبوبة، ثم تتطاول ساقها نحو الأعلى لتكبر أمام ناظريه، وتعطيه من حبها وجمالها ثمارها الحلوة، كانت كفيلة بأن تطلق خيال الفلاح الأول، وهو يرقبها، ويكتب لأطفاله حكاية الخلود السورية الأولى، فكانت حكاية تموز وعشتار، وكانت رحلة العطاء المتجددة في كل عام، بذرة، فشجرة، فثمرة تعطي بذرة جديدة، وتكتمل دائرة الحياة.

أبناؤنا – بالمثل – بذار خير من أصلاب آباء ينتمون معنا لبهاء هذه الأرض، نستطيع أن نعلمهم بالحكاية أن يكونوا أبطالاً بكل مناحي الحياة، خالدين كتموز وجلجامش، مهندسين وأطباء وجنوداً وفنانين وأدباء وعمالاً وفلاحين، ينبشون أرض الحلم، ويبحثون عن سبل نبيلة تليق بأخلاق أهلهم، ويبنون صروح المجد صغاراً.

الأمة الألمانية لمّا أريد لها أن تُمحى بعد إفرازات الحرب العالمية القذرة التي أرادت لها الفناء، نهضت من رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، فصبت كل دموعها وأحلامها وآمالها في بوتقة العقل الألماني الصغير، غذته بالعلم والأمل وبالمقدرات المهنية العالية، ثم حقنته بإكسير الخلود.

اليابانيون، بالمثل، حين أرادت أمريكا بوجهها الاستعماري المقيت أن تشوه الوجه الأسمى للشرق البعيد، وتفني جزر سيف الساموراي بقنبلة هيروشيما، وبكل ما ألقته من قرارات لتقييد اليابانيين وجعلهم شعباً عاجزاً عن الحراك، واجهتها إرادة الخلود الباقية، أبداً، في جينات كل شعب حر، والتي أبت إلا أن تناضل في سبيل الرفعة والسمو والعطاء، فخلق جيل من اليابانيين الصغار واليافعين من رحم الأزمة والمعاناة، متدرب على البذل والعطاء وحب العلم والخروج من قوقعة الألم، فكانت اليابان الحديثة.

 

الخلود من زاوية فنية

أوسامو تيزوكا، مؤسس أصول فن التحريك الكرتوني اليابانية، مثال عملي وجلي لدأب العطاء والبذل والتضحية والاجتهاد في طريق الخروج من رحم المعاناة؛ يستطيع كل منا أن يتتبع مسيرة هذا المبدع العظيم الذي تربّت، فيما بعد، على نهجه آلاف مؤلفة من الكوادر اليابانية التي غزت العالم بنهج المانغا والأنيمي الياباني، ورسومهم المتحركة، حتى بات العالم كله مديناَ للرسوم المتحركة اليابانية بتغيير الذائقة وبتعديل المزاج الفني بشكل عام.

 

ناعورة العطاء الخالدة

ذخرت الحكايات والأساطير القديمة، في هذه الأرض، بكل ما من شأنه الإيحاء بأن فكرة الخلود كانت هاجسنا جميعاً، هاجس جداتنا وأجدادنا وهم يورثون آباءنا فكرة الحب لهذه الأرض، والتعلق بها، وأن قدرها، في لحظات الخروج من المحن المتعاقبة التي مرت بها، أن تُنشئ جيلاً من الشباب اليافع يحمل على كاهله عبء تلك المحن ويهضمها ويفرزها عطاء في مناحي الحياة، كل باختصاصه، لينجلي وجه مستقبلها المشرق، كل مرة، عن حضارة تليق بمكرمات المؤسسين الأوائل لعجلة النول والطاحونة والناعورة.

في وصف جلجامش يأتي نسيج مما قدمه لأهل بلده كتعبير عن الخلود أفضل من الحصول على تلك النبتة السحرية الخرافية التي وهبها له أوتنابيشتيم:

“يرى كل شيء، يرى تخوم الدنيا

حكيم، عليم، يعرف كل شيء

يخترق حالك الظلام بثاقب نظره

يدرك الأسرار، يعرف ما يخفى على الناس

جاء بأخبار الأولين، بأخبار ما قبل الطوفان

جال في الأرض طويلاً، أضناه التعب

وعلى لوح من حجر دوّن ما فعله وما رآه

بنى أسوار أرك، هيكلها المقدس

بنى أسواراً عجيبة لم يبن مثلها الناس

هيكلاً لآنو، كبير الآلهة، هيكلاً لعشتار

تسلق أسوار أرك، تفحص آجرها

أساساتها، هل ترى بناء أعجب منه؟

الآلهة العظيمة خلقت جلجامش كأعجوبة”

في المستقبل غير البعيد، سيصبح من نكتب لهم، ونرسم قصصهم، أبطال المستقبل، يحرثون أرض مجده ويبذرونها بكل ما يستطيعون من عمل وتضحية.. دورنا في هذه اللحظة أن نحصّن الراهن بما هو جميل، ليكون لهم تاريخ يليق بعيونهم الجميلة.