انتخابات بوليفيا.. السياسة الأمريكية ليست قدراً
إبراهيم أحمد
لم يُعمّر الانقلاب الذي دعمته الولايات المتحدة الأميركية في بوليفيا طويلاً، فالشعب البوليفي أثبت للعالم أن قدرة واشنطن غير مطلقة، وأنه قادر على كسر الهيمنة الأمريكية، والأهم من ذلك هو أنّ ما قامت به واشنطن من انقلاب ودعمته ضد رئيس شرعي منتخب لم ينتهِ بانقلاب مضاد كما جرت العادة، بل عن طريق انتخابات شعبية أعادت حزب الرئيس السابق إيفو موراليس إلى السلطة عبر مرشّحه لويس آرسي، والذي بات اليوم الرئيس الجديد للبلاد، متسلحاً بفوز مدوٍ.
إن هذا الفوز لا تنحصر آثاره داخل بوليفيا، بل إنه يُشكّل مؤشراً مهماً على هشاشة الأدوات التي تنصّبها واشنطن حكاماً في القارة الجنوبية أمام الاحتضان الشعبي للحكام الاشتراكيين المنبثقين من تجارب تلك الشعوب، والذين صنعوا معجزات اقتصادية في البرازيل وبوليفيا.. وغيرهما، أوصلت البرازيل على سبيل المثال إلى أن تكون واحدة من أكبر الاقتصادات الناشئة في العالم، وإحدى دول “بريكس”، فكيف اعتادت واشنطن أن تدير سياستها الخارجية في أميركا اللاتينية؟.
تاريخ طويل من دعم الانقلابات
تاريخ واشنطن عريق وطويل جداً بدعم الانقلابات في أمريكا اللاتينية، فهي من دبّرت ودعمت ونفّذت انقلابات وتدخلات عسكرية عديدة هناك، وانطلاقاً من دعمها الجيش لإجبار الرئيس موراليس على الاستقالة في 10 تشرين الثاني 2019، يمكن العودة بالتاريخ لتتبّع تاريخ واشنطن في هذا السياق الذي يعود إلى أكثر من مئة عام. قبل تلك الأعوام المئة، احتلّت واشنطن كوبا وبورتوريكو، ثم دعمت القوات الانفصالية في كولومبيا لتسيطر على مشروع قناة بنما، ثم اعترفت بانفصال بنما عن كولومبيا في العام 1903 لتحصل على القناة، وحافظت على نفوذ لها هناك. وحين تضاربت مصالحها مع الجنرال مانويل نورييغا، احتلّت بنما في العام 1989، كما احتلت نيكاراغوا في العام 1912، وعادت واحتلتها في العام 1934، ودعمت قوات “كونترا” اليمينية للإطاحة بالحكومة اليسارية في العام 1981، الأمر الذي أدّى إلى مواجهات دامية.
وفي المكسيك، في أميركا الوسطى، دعمت واشنطن انقلاباً عسكرياً في العام 1913 أطاح بالرئيس ماديرو، وأتى بالجنرال فيكتوريانو هويرتا رئيساً.
وفي العام 1915، احتلّ الجيش الأميركي هايتي، ودعمت واشنطن نظام العبودية بقيادة الديكتاتور جان فيلبرون غيوم، ثم انسحبت في العام 1934 قبل أن تعود وتحتلها بعد ستين عاماً، إثر انقلاب أطاح بنظام جان برتران أريستيد
وفي العام 1954، أطاحت برئيس غواتيمالا المنتخب ديمقراطياً خاكوبو آربنز بعملية عسكرية، ونصّبت كارلوس كاستيو أرماس مكانه، ليفتتح سلسلة من الديكتاتوريات المدعومة أميركياً.
أما جمهورية الدومينيكان، فكان لها حصة أيضاً من التدخل الأميركي، إذ دعمت واشنطن الديكتاتور ليونيداس تروخيو مولينا ليحكم منذ العام 1930 وحتى اغتياله في العام 1961. وفي العام 1965، تدخلت للإطاحة بالحكومة اليسارية المنتخبة، عبر جنرالات موالين لها، واضطرّت إلى التدخل المباشر واحتلال البلاد.
كما احتلت جزر غرينادا في العام 1983 لمواجهة النفوذ السوفييتي في المنطقة، ولتبقي الجزيرة تحت النفوذ الأميركي.
وفي تشيلي، ساندت في العام 1973 انقلاب أوغستو بينوشيه، بحسب وثائق للمخابرات الأميركية تمّ الكشف عنها في العام 2000. ولأميركا حكاية طويلة أيضاً مع فنزويلا، وليست خفيةً السياسة التي تمارسها واشنطن اليوم ضد حكم الرئيس نيكولاس مادورو، وقبله المحاولات العديدة الفاشلة التي حاولت من خلالها الإطاحة بالرئيس السابق هوغو تشافيز.
إضافةً إلى تلك الانقلابات، دعمت واشنطن انقلابات أخرى عديدة خلال فترات زمنية مختلفة في دول بوليفيا، والبرازيل، والأرجنتين، وكوبا، والدومينيكان، والسلفادور، وغواتيمالا، وغيانا، والهندوراس، والمكسيك، وبنما، وذلك عبر حركات متطرفة ومعادية للديمقراطية وديكتاتوريين دمويين. وهكذا فقد عكفت السياسة الخارجية الأميركية في أميركا اللاتينية على ممارسة التدمير الاقتصادي لدول المنطقة، لاستتباعها والسيطرة عليها بأقلّ جهد ممكن، وهي تحاول إعادة هندسة الأنظمة هناك سياسياً واقتصادياً. لقد كانت البرازيل إحدى الدّول المهمّة التي تضع الولايات المتحدة عينها عليها، كعملاق اقتصادي في أميركا الجنوبية قد يمارس دوراً كبيراً في محيطه، في ما لو تمكّن من الاستقرار على المستوى السياسي.
وقود المستقبل
قدّم رئيس الأوروغواي السابق، خوسيه موخيكا، فرضيته وراء السبب الذي يقف خلف رحيل الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس من بوليفيا. وقال، في مقابلة مع وكالة “نوفوستي” الروسية، إن احتياطيات الليثيوم الضخمة التي تملكها بوليفيا هي السبب في استقالة موراليس. وأضاف: إن ما حدث في بوليفيا العام الماضي ليس إلا انقلاباً على السلطة بسبب الليثيوم، الذي يعدّ وقود المستقبل.
وفي نهاية العام الماضي اتهم الرئيس البوليفي السابق، خلال مقابلة مع وكالة “فرانس برس”، الولايات المتحدة بتدبير انقلاب ضده للسيطرة على موارد الليثيوم في بلاده. حينها قال: إنه أُجبر على الاستقالة بعد دعم الولايات المتحدة لانقلاب ضده لسعيها في الوصول إلى موارد الليثيوم الهائلة التي تملكها بوليفيا.
وجاءت المقابلة بعد حوالي شهر من إعلان موراليس استقالته، في ظل موجة احتجاجات شهدتها بوليفيا بسبب إعادة انتخابه كرئيس للبلاد، إضافة لدعوات من الجيش البوليفي لاستقالته.
حين دعمت واشنطن الانقلاب عليه، كان موراليس يسعى إلى إبرام اتفاقيات لاستخراج الليثيوم مع روسيا والصين. إنه انقلاب ضد الليثيوم، على حدّ وصف الرئيس البوليفي السابق، لأن الدول الصناعية “لا تريد أية منافسة”. لقد كانت بوليفيا على وشك أن تحدّد سعر الليثيوم في السوق العالمية، وهي دولة صغيرة لا يتخطّى عدد سكانها 10 ملايين نسمة. لقد استعاد موراليس بلاده من براثن التدخّل الخارجي لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، وأعطت بوليفيا نموذجاً من خلال هذه الانتخابات لبقية الدول المجاورة، من خلال إعادة خيارها السياسي إلى السلطة، على الرغم من محاولات واشنطن منع ذلك بالوسائل كافّة، ووجود ترامب المتحفّز دائماً للابتزاز السياسي في البيت الأبيض، فهل تتأثر الدول اللاتينية الأخرى بنتائج انتخابات بوليفيا؟.
سقوط الانقلاب الترامبي
لم يقدر الانقلابيون على تغيير وجه لاباز، ومحو الإرث اليساري المتجذّر بين سكانها، تارة بالترهيب، وتارة أخرى بالقمع والقتل والتحريض، لتأتي اللعبة الديمقراطية التي يفترض أن الأميركيين وحلفاءهم أسيادها، فكان جواب الصناديق انتصاراً يحقّقه رفيق موراليس في بوليفيا “لويس آرسي”. عام هو أكثر ما استطاع أن يعيشه الانقلاب العسكري البوليفي الذي هلّلت له ودعمته واشنطن ضد إيفو موراليس، الرئيس الشرعي والمنتخب ديمقراطياً. هذا الانتصار الذي حقّقه الشعب البوليفي هو من دون شك صفعة لواشنطن، وهو أيضاً انتصار للنهج الموراليسي الذي يسعى جاهداً للحفاظ على ثروات ومقدرات بلاده في وجه الطامعين بها، ويُظهر كسر هيمنة واشنطن، ويُعرّي إخفاقاتها ويُمهّد لمرحلة تحوّل قد تكون سريعة في أميركا اللاتينية، ونقطة دعم وقوة لحلفاء موراليس، ولاسيما في فنزويلا وكوبا.
إن أهمية فوز حزب موراليس الاشتراكي تكمن بسقوط الأقنعة عن وجوه الانقلابيين ممن ادّعوا الولاء للوطن فانكشف أمرهم وانفضح زيفهم. لقد سقط مشروع الانقلابيين، فلا القمع ولا العنف نجحا في إبعاد مناصري موراليس عن قضيتهم، وأهمية هذا الفوز أن إيفو موراليس، “الرئيس الظاهرة” في عيون شعبه، غربل من كان قد وصفهم بالانتهازيين الذين ادّعوا أنهم مناهضون للإمبريالية، فجاء الانقلاب ليفضح ولاءاتهم الحقيقية. كما أسقطت نتائج الانتخابات كلّ مزاعم الانقلابيين بتزوير موراليس للانتخابات وبفساده، ما أجبره على المغادرة مكرهاً إلى الأرجنتين بعد تهديدات باعتقاله واغتياله.
انتصار بوليفيا حكاية صمود ومقاومة، فالشعب البوليفي صنع لنفسه فجراً جديداً وأملاً لشعوب أميركا اللاتينية، خاصة بعد انتصار الأرجنتين وصمود الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أمام كل محاولات واشنطن في حصار فنزويلا. وها هي التشيلي تحاول أيضاً تفكيك أذرع واشنطن الملتفة حول عنقها، ومن المرجّح أن تعود الأحزاب اليسارية بقوّة إلى السلطة في القارة اللاتينية. إرادة الشعوب تنتصر في النهاية، وواشنطن ليست قدراً.