الهاغانا وشتيرن وداعش والنصرة والقاعدة.. استراتيجية التوحش نشأت في رحم أسطورة “التحرر” الأمريكية
“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف
منذ ما يزيد عن 10 سنوات، تطورت الأحداث في المنطقة العربية حتى بات العنف مسألة وجودية، وأمراً محتوماً في سياق هذا التحول، لكن الأخطر في هذه التطورات لم يكن مجرد وجود تنظيم إرهابي متحول يهدد دول المنطقة، بل في ظهور متلازمة سياسية وإيديولوجية تهدد وحدة دول المنطقة بأسرها. واليوم، يتضح أن ما سمي “الربيع العربي” ورياح التغيير الزائفة التي هبت على المنطقة عام 2011، كانت رياحاً اصطناعية للتغطية على أهداف جيوسياسية في مقدمتها إعادة تشكيل المنطقة، حتى باتت مسألة صراع كوني لتقرير مستقبل الجميع.
استراتيجية العنف
لم يكن وعد بلفور، عام 1917، ليتحقق لولا الاحتلال البريطاني لفلسطين لوقت طويل، وظهور المنظمات الإرهابية الصهيونية عام 1948، مثل الهاغانا وشتيرن. ومع مرور السنوات، لم يعد خافياً أن المنظمات الإرهابية الصهيونية كانت تتلقى دعماً سرياً من معسكرات الجيش البريطاني، ولكن تحت غطاء كثيف من الصراع الشكلي، بحيث تظهر معسكرات الجيش البريطاني وكأنها في حالة دفاع عن النفس، وأنها تصطدم بالعصابات الصهيونية الإرهابية، بينما الحقيقة أنها كانت تتغذى – سراً – من الرعاية البريطانية.
وبالمقارنة بما جرى خلال السنوات الماضية، فإن أعمال القتل التي دعمتها ومولتها الولايات المتحدة الأمريكية عبر أداتها “داعش”، وغيرها من المنظمات الإرهابية والانفصالية – كما الكيان الصهيوني منذ 1948 – تم تصميمها لتحويل التوحش إلى مصدر جاذبية، من نوع جديد، تثير حماسات وانفعالات آلاف الشبان المخدوعين. ولذلك، تبدو واشنطن وكأنها تعيد إنتاج سياسة المعسكرات البريطانية في فلسطين، أي مواجهة شكلية مع المنظمات الإرهابية، بما يمكنها من أن تعيد تصوير نفسها تقاتل من أجل أهداف ومبادئ عليا.
لقد كانت معسكرات الجيش البريطاني هي التي تزود العصابات اليهودية بالأسلحة والعتاد، أو تقدم التسهيلات الضرورية للحصول عليها، وكانت “اللعبة الكبرى” تقوم على قاعدة تصوير ولادة الكيان الإسرائيلي كـ “حركة تحرر” من الاحتلال البريطاني.
تكريس فكرة الدولة
حتى الفلسفة التي قامت عليها المنظمات الإرهابية، كما عبر عنها جاتوبونسكي، تأسست على فكرة ممارسة العنف الأقصى؛ ولذلك، تلازم ظهور هذه العصابات المتوحشة مع وقوع مجازر مروعة في فلسطين، أي أن هذه الاستراتيجية بنيت على أساس ترويع السكان وإخضاعهم بالقوة لقبول فكرة “الدولة”، وهذا ما مارسته “داعش” التي تم تصوير وحشيتها على أنها من متطلبات الدين وأسسه الشرعية.
إذن هناك شَبَهٌ حتى التطابق بين الكيان الإسرائيلي و”داعش”، حيث أدى احتلال العراق، عام 2003، إلى ولادة جيل من المنظمات الإرهابية تتمثل مزاعمه في المزيج ذاته من الأفكار التي اعتمدتها العصابات الصهيونية، فهي تدعو إلى إحياء “الخلافة” – كما أسطورة إعادة قيام “إسرائيل” – وممارسة أقصى حد من التوحش.
كان تنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين” الذي ظهر في الأيام الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق، يمثل الجيل الأول من المنظمات المتوحشة؛ ثم ظهرت “دولة العراق الإسلامية” لتحل محل القاعدة. ومع الجيل الثاني، أصبح التوحش فلسفة شمولية راحت تضرب خارج الحدود. وقبيل إعلان الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها المقاتلة التي احتلت العراق، والإبقاء على جيش من المستشارين، ظهر الجيل الثالث الذي يحمل اسم “داعش” ليستوعب احتياجات الاستراتيجية الأمريكية بعد ما يسمى “الربيع العربي” وزعزعة الاستقرار في سورية.
فعلياً، أدى انسحاب البريطانيين من فلسطين إلى ولادة الكيان الإسرائيلي، وأدى الانسحاب الأمريكي من العراق فعلياً كذلك إلى ولادة “داعش” في الموصل، قبل أن تتمدد بسرعة إلى غرب العراق وشمال سورية، وتلازمت هذه الولادة مع ممارسة استراتيجية التوحش: إن المجازر ضد المدنيين وقتل الأطفال والتمثيل بالجثث وحرق القرى في فلسطين المحتلة لا يضاهيها سوى المشاهد التي ارتكبت في العراق وسورية. بهذا المعنى، أصبح أمراً مؤكداً أن المثال الصهيوني يعاد إنتاجه مع المثال التكفيري في نسخته الداعشية.
وحتى الوثائق البريطانية، التي تكشفت قبل سنوات قليلة، تشير إلى تواطؤ الجيش البريطاني في رعاية العصابات الصهيونية، وأن استراتيجية لندن في الصراع ضد الهاغانا وشتيرن كانت نوعاً من لعبة كبرى للتغطية على ولادة الكيان الإسرائيلي، ما أكسب الكيان في المجتمعات الأوروبية موجة من الدعم والتأييد بلغت حد تدفق المتطوعين الأوروبيين للقتال، وهو أمر شبيه بما حدث في ذروة الهجمة الإرهابية على سورية، حيث موجات الدعم التي حظي بها “داعش” في الغرب عموماً تؤكدها أفواج المتطوعين الغربيين الذين وصل عددهم حسب الإحصاءات الرسمية إلى نحو 20 ألفاً، معظمهم من ألمانيا، وفرنسا، وغيرهما.
التبدل في أولويات الصراع
إن جاذبية التوحش، والغطاء السياسي – الديني لولادة الكيان الإسرائيلي هي ذاتها جاذبية التوحش التي مكنت “داعش” و”جبهة النصرة”، وسواهما، من الحصول على الدعم الكافي، والغطاء السياسي – الديني لتمرير مشروع الخلافة المزعومة. وتتمثل هذه الجاذبية، التي تم اختبار فاعليتها، في خلق مزيج من الأفكار والرؤى والتصورات؛ ففي الكيان الإسرائيلي قبل ولادته، كانت فكرة “أرض الميعاد”، أي الجنة الأرضية التي سوف تدخلها الهاغانا، وشتيرن لإقامة شرع يهوه، وتحقيق وعد أبراهام، وهي الفكرة المركزية في استراتيجية التوحش؛ وهذا ما يناظره في مشروع “داعش” دعوات إقامة شرع إله “داعش” على الأرض وإقامة دولة العدل الداعشية، لذلك اختلطت صور المجازر الوحشية بصور الجنة الموعودة والحوريات بجهاد النكاح. وهكذا ظهرت فلسفة جديدة تقوم على أساس أن جهاد النكاح فلسفة دينية لا مجرد ممارسات غريزية.
لقد جرى، بفعل جاذبية التوحش، تبديل دراماتيكي في أولويات الصراع، وأصبح هدف إقامة “دولة الخلافة” هدفاً مطلقاً يحل محل الصراع العربي – الإسرائيلي، وبحيث تصبح التنظيمات التي تحمل اسم “الأقصى” و”بيت المقدس”، قوة عسكرية موجهة لتحقيق هدف آخر غير الهدف التقليدي، وهو تحرير فلسطين.
الدولة الحاجز
وهنا، من الضرورة بمكان التمييز بين المفاهيم الطاغية في الأدبيات السياسية والإعلامية، والتركيز على الأداة التي أنيطت بها مهمة تحقيق أهداف عسكرية محددة عبر التوحش، وإلى الهدف الاستراتيجي للتوحش المتمثل في إنشاء كيان قادر على الفصل جغرافياً وسياسياً بين الدول العربية. وهذا الهدف مماثل تماماً لهدف إنشاء الكيان الإسرائيلي أي إنشاء الدولة – الحاجز التي تعيق وتمنع فعلياً التواصل الجغرافي الطبيعي في المشرق العربي. ولذلك، عند مراجعة التاريخ الرسمي لقيام الكيان الصهيوني، نجد أن الحملة البريطانية ضد الإرهاب (العصابات الصهيونية) أدت فعلياً إلى تقليم أظافر “الوحش”، ولكنها لم تمنعه من تحقيق الهدف الاستراتيجي، فقد ولد الكيان الصهيوني في النهاية، بينما تلاشت الهاغانا وشتيرن من الوجود.
كان ظهور الكيان كدولة – حاجز، جغرافي طبيعي، هدفاً مركزياً لدول كبرى كانت تصارع من أجل تعديل علاقات القوة بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن مجرد هدف لعصابات متوحشة. وبطبيعة الحال، فقد تطلب السماح للتنظيم الإرهابي بأن يقيم دولته – الحاجز أن ينتقل تدريجياً من التوحش إلى “المدنية”، أي أن يقدم نفسه ككيان مؤمن بقيم الغرب.
لذلك لم تتطلب ولادة الكيان الإسرائيلي التخلص من التنظيمات الإرهابية التي أنشأته بقوة التوحش، بل فرض نفسه على الغرب من خلال حسابات ومصالح دولية كبرى، وهو ما يبرر منحه الوقت الكافي لينتقل من “التوحش” إلى “المدنية”! ألم يولد الكيان الإسرائيلي كسلطة متوحشة استولت على أراضي ثلاثة بلدان عربية، هي فلسطين والأردن وسورية؟ لكنه، أيضاً، انتهى بعد حقبة طويلة من الصراع، إلى تغيير صورته كلياً، وكان من أهم نتائج ذلك، اليوم، التطبيع المتواصل معه لقبوله كـ “دولة طبيعية”.
لنتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية نشأت نشأة مماثلة، وقامت على جثث 80 مليون من الهنود الحمر، وفوق أراضي شعوب أخرى بما في ذلك المكسيك. لقد ولدت الولايات المتحدة الأمريكية من رحم الحرب نفسها التي قادتها بريطانيا، حيث يقول التاريخ الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية أنها نشأت من رحم “التحرر الوطني” من الاستعمار البريطاني، ولا يقول أنها نشأت من رحم النهب والقتل. أي أن الأنموذج الأمريكي الذي اهتدى به التنظيمان الإرهابيان، الهاغانا وشتيرن، لا يزال قابلاً للتوالد الذاتي بأشكال أخرى على أيدي تنظيمات إرهابية متحولة، مثل “داعش” و”النصرة” و”القاعدة”، والتي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية في كل مكان على الأرض.