الهيئة في وادٍ والصيادون في وادٍ آخر.. بحرنا ليس فقيراً و”أصحاب العضلات” يسيطرون على سوق السمك!
“البعث الأسبوعية” ــ وائل علي
مفارقة غريبة أن نمتلك 180 كيلومتراً من الساحل الشرقي المتوسطي الممتد من حدودنا مع تركيا شمالاً حتى الحدود اللبنانية جنوباً، والسوريون يعيشون “عوزاً سمكياً” فاضحاً ومزمناً قلّ مثيله حتى في دول لا علاقة لها بالبحر، ولا تربطها معه صداقة، أو جيرة، أو “مخاواة” إن صح التعبير، فكيف ذلك ولدينا ما لدينا من جهات ومؤسسات رسمية، بدءاً من “الهيئة العامة للثروة السمكية”، و”المديرية العامة للموانىء” حامية البحر من التعديات والانتهاكات، وأخرى أهلية كجمعيات صيادي الأسماك في طرطوس وأرواد وبانياس واللاذقية، وكلها تعنى – وفق شعاراتها وأهدافها المعلنة – بتحسين الواقع السمكي في بحرٍ هجرته أسماكه وثرواته، فكيف يستوي ذلك؟!
حتى ثروة الإسفنج البحري النادر خسرناها دفعةً واحدةً بعد أن تلاشت واندثرت قبل نصف قرن، وصارت حديثاً من أحاديث الذكريات، بعد أن انقرضت وذهبت إلى غير رجعة في وضح النهار..!
وفي حديثين متعاكسين لمدير عام الهيئة العامة للثروة السمكية ورئيس جمعية صيادي طرطوس، يمكننا استقراء الحال الذي وصلته ثروتنا السمكية، وحجم الهوة الكبيرة التي لا تزال تفصلنا عن تكريس واقع سمكي مستقر في بلد بحري، ومشكلات تفرضها ممارسات غير منضبطة تقوض كل المساعي، وتجعل حلولنا تنظيرية محضة، ما يجعل هيئتنا السمكية وثروتها الضائعة في وادٍ والصيادين في وادٍ آخر تماماً.. فلنتابع معاً ظروف هذا الوجع وواقعه الذي نستغرب لمَ لا ينهض!!
وجع سمكي!
عزا مدير عام الهيئة العامة للثروة السمكية، د. عبد اللطيف علي، تدهور واقع هذه الثروة إلى تداعيات الأزمة لجهة خروج عدد كبير من مراكز الحماية في المسطحات المائية من الخدمة، بسبب تعرضها للتخريب والسرقة، وتعذر خروج الصيادين للصيد، إذ أصبحت الثروة السمكية في هذه المسطحات غير محمية وعرضة للاستنزاف والتدمير، بالتوازي مع عدم القدرة على استثمار بحيرات السدود، وخروج عدد كبير من المزارع الخاصة من عملية التربية والإنتاج في مناطق حماة والغاب وحمص والرقة، والتي تحوي القسم الأكبر من المزارع السمكية، وبالتالي انخفاض إنتاج وعرض المادة وارتفاع أسعارها، وأشار إلى أنه تم إعداد رؤية تطويرية لدعم وتشجيع التربية والاستزراع السمكي في المياه العذبة والبحرية، وإعادة تأهيل نقاط الحماية والمراكز التي تعرضت للتخريب في المحافظات، وتنمية الموارد البشرية، إضافة إلى مصفوفة الإجراءات الواجب اتخاذها بالتنسيق مع الوزارات. وأضاف أنه، ولتدارك النقص في إنتاج الإصبعيات، تم تحويل مزرعة مصب السن إلى إنتاج الإصبعيات بالطاقة القصوى لتلبية حاجة المزارع العاملة واحتياجات زراعة السدود.
أسباب أخرى
إلا أن لعادل تنبوك، رئيس جمعية الصيادين بطرطوس (المحدثة عام 1995، والتي لا تملك مقراً ولا سوقاً لبيع السمك حتى تاريخه) رأياً آخر حول الأسباب التي تؤثر سلباً على تطوير هذه الثروة، إذ بيّن أن عدد جمعيات الصيادين في المحافظة 3 جمعيات، في طرطوس وأرواد وبانياس، وهناك موافقة من المحافظ ورئيس مجلس المدينة بتخصيص الجمعية بسوق للسمك لكنه لم ينفذ، نظراً لأن الأولوية في هذا الخصوص لـ “صاحب العضلات” – حسب تعبير تنبوك – فهو من يستطيع الترخيص الإفرادي، وفتح سوق للبيع، على حساب الجمعية التي لا يعطى لها سوق ولو كان مؤقتاً، علماً أن قوامها حوالى 500 صياد منتسب وغير منتسب للجمعية من منطقة بصيرة شمالاً حتى الحميدية جنوباً..!
ناقوس خطر
وفي وقت يعرض د. علي خطة الهيئة لموسم 2020 – 2021، والتي تستهدف إنتاج 2 مليون إصبعية (1،5 مليون كارب بأنواعه، و0،5 مليون إصبعية مشط بأنواعه) في مركز أبحاث الهيئة لاستخدامها في التجارب واستزراع بحيرات السدود والمزارع الأسرية، وتأمين احتياجات المربين ومستثمري السدود، يدق رئيس جمعية الصيادين ناقوس خطر خسارة زوار جزيرة أرواد والصيادين لميناء النزهة والصيد الشهير المعروف بـ “الطاحونة” إلى الأبد لصالح مشروع انترادوس السياحي، بعد استكمال تنفيذ مشروع ميناء النزهة والصيد الجديد من قبل مستثمري مشروع انترادوس السياحي في موقع شاطىء الأحلام جنوب طرطوس، ليكون البديل عن الميناء الحالي، مشيراً في ذات الوقت إلى أن ميناء المارينا الحالي سيكون ميناءً مؤقتاً لاستقبال الزوارق مقابل 100 ألف ليرة سنوياً كرسوم لصالح مجلس مدينة طرطوس، وهذا ما لا طاقة لأصحاب المراكب به، علماً أن المراكب مسجلة لدى الموانىء، مركزاً في حديثه على المشكلة التي تنتظر المراكب الأروادية جراء تسليم موقع المارينا الحالي لشركة القاطرجي التي ستنفذ مشروعاً سياحياً عملاقاً، سيسفر بالنتيجة عن تضيٌّق ميناء الطاحونة الحالي الذي لا يتسع للـ 150 زورقاً العائدة للصيادين، رامياً الكرة في ملعب مجلس المدينة الذي يتغاضى عن تقاعس شركة انترادوس، صاحبة مشروع جونادا السياحي، في تنفيذ مشروع ميناء الصيادين البديل طوال المدة الفائتة..!
تضارب
على وقع حديث د. علي عن توزيع 94 ألف إصبعية كارب مجاناً، هذا العام، على أصحاب المزارع الأسرية البالغ عددها 664 مزرعة، في محافظات اللاذقية وريف دمشق وطرطوس وحمص وحماة والقنيطرة، ووصول الأوزان الوسطية للأسماك عند عدد من المربين في حمص إلى 700 – 750 غراماً في نهاية الموسم، يؤكد تنبوك أن بحرنا ليس فقيراً بالأسماك، وأن شكوى الصيادين من قلة الأسماك سببها مواسم الصيد، حيث تتوفر أسماك محددة دون أخرى في أوقات معينة من السنة، مشيراً إلى أنه وخلال الشهرين الماضيين كان لدينا موسم لأسماك الشحاطة، وسمك أم عين “التونة”، والبلاميدا، ولمبوك.. والشغل كويس؛ وخلال الأشهر القادمة، يزخر البحر بكل أنواع السمك، ويوجد أكثر من ستة قوارب لصيد الجرف بالمياه الإقليمية، وهذا الأمر يؤثر على الصيادين كون هذا النوع من الصيد لا يفرق بين الأسماك الصغيرة والكبيرة، محملاً الهيئة مسؤولية الموضوع، ولاسيما أن أسواقنا عامرة بالأسماك المثلجة، علماً أن السمك البلدي أرخص من القجاج واللقس وأفضل منه..!
ويدحض د. علي هذا الكلام مؤكداً أنه، خلال الأعوام الأخيرة، ونتيجة لظروف الحرب، وبهدف المحافظة على القطع الأجنبي، توقف استيراد الأسماك من قبل الجهات المعنية، باستثناء معلبات السردين والتونا، منوهاً إلى أنه يُشترط لدى استيراد الأسماك المجمدة الحصول على الموافقات الفنية من الهيئة العامة للثروة السمكية التي تخضع لقرارات خاصة تحدد الشروط الصحية التي تبين أنها سليمة وصالحة للاستهلاك البشري.
تبرير
تبرر هيئة الثروة السمكية تدني إنتاجنا السمكي البحري، فيما دول الجوار تنعم بعائدات وفيرة من الصيد البحري، بأن طول الشاطئ السوري يبلغ 183 كم، وانخفاض كميات الأسماك البحرية المُصادة يتعلق بعوامل عدة منها ضيق الرصيف القاري، وقلة الأنهار التي تصب في البحر، وبالتالي قلة المغذيات وقلة الخلجان والرؤوس على الساحل، والتي تعتبر ملاذاً آمناً لتكاثر الأسماك، وقلة التيارات البحرية التي تحمل معها المغذيات البحرية، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وارتفاع أسعار وسائل الصيد، والصيد المخالف عبر استخدام وسائل صيد غير نظامية، من شباك مخالفة وسموم ومتفجرات، إضافة إلى الجرف التي تم الحد منها كثيراً في الآونة الأخيرة، إلى جانب أن الصيد بشباك ذات فتحات بعيون صغيرة أدى إلى صيد كميات كبيرة من الأسماك تفوق قدرة البيئة البحرية على تعويضها. ويؤكد د. علي، في هذا السياق، أن زيادة الإنتاج في الدول المجاورة لا تعود إلى الصيد من المياه البحرية فقط، وإنما إلى التوجه نحو الاستزراع السمكي في المزارع، وهو ما بدأناه منذ ثلاثة أعوام.
بالمقابل، يوضح تنبوك أن المزارع البحرية السمكية قليلة، آملاً أن يتاح للجمعية إنشاء مزرعة سمك بحري، لاسيما وأن العلاقة مع اتحاد الفلاحين جيدة قلباً وقالباً، مشيراً إلى أن أسعار السمك في بانياس أرخص من غيرها بسبب ضعف السوق وقلة الطلب وكثرة العرض، لافتاً، في ذات السياق، إلى أنهم “الآن مرتاحون كون الصيد بالديناميت مضبوط والصيد الجائر مراقب”، وفقاً لتأكيداته.
صلة وصل
وتحدث تنبوك عن عمل الجمعية ومساعيها لتطوير واقع استثمار الثروة السمكية، مبيناً أن أية مشكلة تعترض أي صياد تتدخل لمعالجتها؛ وقد تمكنت مؤخراً – وبالتعاون مع منظمة الهلال الأحمر – من توزيع سلال صيد لـ 1100 صياد في أرواد، وطرطوس وضواحيها، وبانياس، وصولاً للحميدية، تضم 8 شباك صيد ولوازمها وخيطان نايلون وسنانير، كما أنها تؤمن 200 – 250 ليتر شهرياً من المازوت لكل زورق بموجب البطاقة الذكية، مؤكداً أن الجمعية صلة وصل بين الصياد ومديرية الموانىء لتسهيل حركة الصيادين وتأمين موافقات الإبحار والخدمات اللوجستية لزوم أعمال تجديد تراخيص الزوارق وصيانتها وغيرها.
تطوير وتعديل
أوضح د. علي إجراءات تطوير هذا الواقع أفقياً وعمودياً، والعمل على تعديل وتحديث قانون حماية الأحياء المائية، وقانون إحداث الهيئة العامة للثروة السمكية، ودمجهما بقانون عصري يلبي متطلبات تنمية وتطوير حماية الثروة السمكية، وتنفيذ التجارب ضمن مواقع الهيئة لتعميمها على القطاع الخاص، بهدف الاستفادة منها لزيادة الإنتاجية في وحدة المساحة، وتحسين جودة المنتج، وتخفيف تكاليف الإنتاج وتسويق نواتج التجارب كإيرادات للهيئة، علماً أن نواتج تجارب العام الماضي من أسماك الكارب والمشط بلغت 122.4 طناً بنسبة تنفيذ 110%، إضافة إلى إجراء تجارب على تربية أسماك المياه البحرية المحلية “بوري – سمنيس”، لعام 2020، ضمن أحواض المزرعة البحثية البحرية لإنتاج الأسماك البحرية بمصب السن، وإنتاج الجيل الأول من المشط وحيد الجنس عالي الانتاجية في وحدة المساحة، مشيراً إلى أنه تم إجراء تجارب لأول مرة في سورية على تربية أسماك المشط في الأقفاص العائمة وزيادة إنتاجيته، وتفريخ أسماك الكارب العاشب والفضي التي توقف تفريخها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكذلك إجراء تجارب على تربية أسماك المشط الأزرق في المياه البحرية المالحة، وكانت النتائج مشجعة جداً، إلى الحفاظ على أمّات الأسماك وتحسينها “كارب بأنواعه ـ مشط بأنواعه” للمحافظة على السلالات الجيدة لاستخدامها في التفريخ، واستزراع بحيرات السدود بالإصبعيات المحسنة المنتجة ضمن مزارع الهيئة، وهذه العملية مستمرة، منذ عام 2011 وحتى تاريخه، حيث بلغ مجموع الإصبعيات المستزرعة في بحيرات السدود خلال الثلاث سنوات الأخيرة 1.504.566 إصبعية كارب ومشط، ومن المخطط استزراع كمية 200 ألف إصبعية “كارب ومشط” في بحيرات السدود والسدّات المائية، والغاية الأهم من استزراع السدود تأمين مصدر سمكي ومادي وغذائي للصيادين والمجتمع المحلي المحيط، والتوسع في مشروع مزارع الأسماك الأسرية ودورها في التنمية المستدامة لسكان الأرياف لنشر ثقافة تربية الأسماك، وتأمين الغذاء الصحي للأسرة الريفية مع دخل مادي إضافي، إضافة إلى الاستخدام المزدوج لمياه خزانات السقاية في سقاية المزروعات، وإنتاج بروتين سمكي عالي الجودة، وترشيد استهلاك المياه، وتنفيذ فكرة تكامل الاستزراع السمكي النباتي حيث أن مياه تربية الأسماك تكون غنية بمادة الأمونيا المخصبة للتربة، وبالتالي تقلل من تكاليف الإنتاج.
آخر القول
لا تزال وجبة سمك واحدة حلماً بعيد المنال بالنسبة لغالبية الأسر السورية، وذلك نتيجة ارتفاع أسعارها إلى مستويات لا تجاري دخل هذه الأسر، مع الإشارة أخيراً إلى أن الأسعار تحدد عادة حسب الموسم، وهي بالمحصلة عرض وطلب، فسعر سمك اللقس والفريدي وسرغوس يتراوح ما بين 2.000 – 4.000 ليرة، والبلاميدا 1.500 – 2.000 ليرة، والسكنبري 1.500 – 2.000 ليرة، والسردين 1.000 ليرة، والبوري 5.000، والطريخون 6.000، والجراوي 6.000 – 7.000، والسرغوس 8.000 – 10.000، والمليفا 4.000، والسفرني 10.000، واللمبوك 5.000، وأم عين 2.500 – 3.500، والغزال 10.000 – 12.000، واللقس الصخري 8.000 -15.000 حسب حجم السمكة.