الانتظار!!
سلوى عباس
في زمن تزدحم فيه الحياة وتغرقنا في تفاصيلها، نركض ونركض ولا نلوي إلا على تعب يجعلنا في منأى عن لحظة نقترب فيها من أرواحنا نتنسم عبق وجودنا لنستطيع بعدها مواصلة لهاثنا وركضنا للحاق بأعباء أثقلت كاهلنا وأبعدتنا عن فسحة نستريح فيها من تعب أيامنا. هذا ما تعيشه شخصيات العمل الدرامي “الانتظار” الذي انتهى عرضه منذ أيام على إحدى القنوات السورية.. شخصيات تعيش في حارة واحدة تحكمهم إرهاصات الحياة ومشاكلها التي تنعكس على علاقاتهم مع بعضهم ومع أنفسهم ومواجهة مشاكلهم ومجتمعهم. شعور ممض ومؤلم ينتابني– وربما كثيرون مثلي- مع كل حلقة من هذا المسلسل الذي تمثل أحداثه انعكاساً لحالاتنا الإنسانية بكل تفاصيلها، وتعبيراً عن ضجيج أرواحنا، لأنه في هذا الزمن المجلل بالقهر والتوتر لا يستطيع الإنسان إلا أن يستسلم لتداعياته هرباً من واقعه المؤلم، فيأتي “الانتظار” بكل عفويته وتلقائيته ليثبت أن الفن الجيد لا يصدر إلا عن خيال إبداعي مبتكر يستشرف أبعاد اللحظة الإنسانية ويوظفها توظيفاً يقدمها بكل وضوح وبعيداً عن كل التباس.
العمل من تأليف الكاتبين حسن سامي يوسف ونجيب نصير اللذين عودانا على نظرتهما الحساسة لقضايا المجتمع وإشكالاته الحياتية، والتي جسداها بمشهدية بصرية أعطت العمل الكثير من الواقعية والمصداقية بتوقيع المخرج الليث حجو الذي واكب برؤيته الإخراجية تفاصيل الورق التي تناول فيها الكاتبان قضايا الناس وهمومهم، إذ تدور أحداث العمل في أحياء شعبية تضم أشخاصاً جمعتهم مآسيهم وأحزانهم، فراح كل منهم يبحث عن خلاصه بعمل ينقذه من فقره وضياعه ويضمن له فسحة من العيش الكريم.. هؤلاء الأشخاص الذين تجمعهم هزائمهم وخيباتهم ومصيرهم المشترك، رغم تنوّع أطيافهم وتباين تركيبتهم الاجتماعية والنفسية والأخلاقية حيث كل واحد منهم يحمل نظرة مختلفة للحياة، أشخاص يعيشون على هامش الحياة مهزومون ومنكسرون، يتساءلون عن معنى الحياة وجدواها وماذا نريد منها، وكيف يمكننا أن نعيش تفاصيلها ونفهمها، ليبقى هؤلاء الناس، ونبقى نحن معهم، على قيد أمل أن تهب رياح على نبتة الروح المتوهجة في محاولة عاصفة لاستلاب تلك الحياة، وتتفجر الشكوى أنيناً مكبوتاً بأن هناك شيئاً عزيزاً يتسرب من بين شراييننا نحاول الإمساك به، قد نستطيع وقد لا نستطيع..
قدم المسلسل شخصيات متنوعة، ومختلفة، جمعتها “الحارة”، والعجز، على اختلاف مستوياتها التعليمية والثقافية.. الجميع ينتظر، سواء كان الانتظار يخص الحب أو الأمل أو الخروج من هذه البقعة الجغرافية المكتظة بالمشاكل والآلام في المشاهد الأخيرة، فبعد مقتل “عبود” جسد الشخصية تيم حسن، يبكي الجميع، وهم في طريق العودة إلى الحارة.. إنها المحبة التي يحولها إيقاع الحياة السريع إلى كائن يكاد ينزوي جوعاً، إنها المشاعر التي تجعل للعيش مذاقاً لاذعاً وحميماً، والتي بدونها لن نستطيع الحياة، ويعود المخرج للقطة الواسعة، في دلالة على اتساع الدوامة التي سيعود إليها الجميع، بعد مقتل الشخص الذي منحهم الأمل يوماً ما، برغم كل خلافاتهم مع بعضهم، يجتمع الكل لأجل “عبود”، ولعل مفردات رائعة عبد الوهاب التي ينشدها أبطال العمل في المشهد الأخير من العمل خير تعبير عن هذه الحالة: “إن طال الوقت على الركاب/يجري كلامهم في سؤال وجواب/بعد شوية يبقوا أحباب/وده يعرف ده/ ياوابور رايح على فين”
ربما هي المرة العاشرة أو أكثر التي أشاهد فيها هذا العمل، وفي كل مرة أعيشه بذات الإحساس والوجع والتعاطف مع شخصياته، والسؤال الذي يظل يحفر في حاضر الروح ما هو سرّ الانتظار الذي نعيشه منذ يومنا الأول في الحياة حتى هذا اليوم؟! وهل شغفنا بهذا العمل كونه مشغول بحرفية دراما زمان العصية على مغادرة الذاكرة؟ أم أنّ سوء ما يعرض حالياً يجعلنا في حالة بحث دائم عن نماذج الدراما الماضية!