“العطّابة”.. طفولة عادت كأنها بالأمس
يؤكد الأديب سلمان البدعيش صاحب (العطّابة) أن روايته سيرة ذاتية لثلاثة أجيال من أسرة وطنية مكافحة، ولم يكن يخطر ببالي عندما بدأت بقراءة هذه الرواية أن أجد طفولتي فيها، تلك الطفولة بما حملته من متاعب أو كانت فيه شاهداً على صدقية السرد وتطابق الشخصية المحورية مع الواقع، وما أضافته الرواية من معلومات موثّقة عن شخصية صامتة هادئة كانت مثالاً للرقي والمدنية والعطاء، فالشخصية الثالثة من هذه الرواية هو أستاذي ومدير مدرستي الإعدادية التي دخلتها في صيف العام الدراسي 1962 لامتحان انتهاء المرحلة الابتدائية، حيث قيل لنا: إن الامتحان سيكون هناك في الإعدادية الثانية، وكانت الأولى تسمّى باسم الشهيد عدنان المدني.
مدير المدرسة الأستاذ يوسف الدبيسي مدرس التاريخ في مدارس السويداء، وهو الشخصية المحورية في الرواية، والمدرسة داره، وهي في الجنوب من المدينة، وقبل سنوات وقفت على سورها فانداحت من بين جنباتها ذكريات طفولة ولا أحلى حيث كمشة الزعرور بفرنك سوري وسندويشة الفلافل بفرنكين أو ثلاثة، وحيث الهتافات من تلك الدار “المدرسة” إلى السرايا (لا دراسة ولا تدريس إلا بعودة الرئيس) والمطلوب عودة الوحدة بين مصر وسورية، مثلما عادت اليوم مع إتمام الرواية.
تتضمن السيرة صلة السوريين بجبالهم وسهولهم الممتدة من المتوسط غرباً إلى حدود العراق، ومن العقبة وغزة جنوباً إلى حلب والساحل، مرورا بالشوف الذي هجرته الأسرة مرتين، حيث ترك يوسف الدبيسي الجد تلك القرية من قرى الشوف واختار صلخد موطناً افتتح فيها عملين جديدين فكان رائد مهنة الحدادة، ثم رائداً لطاحونة تسير بالرياح بدلاً من المياه، نظراً لما يملكه من عقل ميكانيكي ومقدرة على التقاط الصنعة من الأرمن، لكن سيرة هذه الأسرة مختلفة عن سير الأسر في الجبل التي اختارت القناعة كنزاً لا يفنى وقلما غامرت في شي فارتضت أن تظل على حدود الفقر.
إن المصائب والويلات وتكسر الأحلام على جرف الواقع المر كانت على الدوام من نصيب هذه الأسرة، فسليم ابن يوسف لاقى الكثير من تتابع الإخفاقات، منذ أن سبقت فرسه فرس البيك في صلخد وما تلا ذلك من مكائد استهدفت هذه الأسرة وصلت إلى تخريب المطحنة بخلخلة أوتادها لتكمل العاصفة الهوجاء اقتلاع البناء، ما أدى إلى خيارات أخرى في الجبل وفي لبنان وحتى في طلب الهجرة، لكن سوء الطالع ظل رفيقاً وملازماً لمشاريع الأسرة من الجد إلى الابن إلى الحفيد.
سيرة هذه الأسرة جزء من مسار الثورة السورية الكبرى بقيادة الرجل الكبير كما أسمته الرواية، وما تعرض له الجبل والثوار قبل الثورة وبعدها، وما عانوه من حملة عسكرية ظالمة كان من بين ضحاياها الأستاذ يوسف الدبيسي. لقد أصاب قصف الجبل من قبل قوات الاحتلال الفرنسي بيوت ومحلات تجارية وورشات هذه الأسرة مثلما تعرض سليم إلى نهب قطاع الطرق وهو عائد من دمشق عند تل الخالدية ما دفع بيوسف إلى خيارات محدودة طلبا للرزق وتأمين حياة معيشية لائقة يكون فيها للأسرة منزل وحديقة وأشجار مثمرة ومساحة لزراعة الخضار، مثلما اعتادت أن تملك وتعيش.
أتقن يوسف الفرنسية وهو صاحب حضور جذاب وأناقة رفيعة تدل على تنعّم في الحياة، واهتمام زائد بالمظهر وهذا وفّر له عملا لدى الفرنسيين في نادي الضباط وبراتب مغر يزداد ويتضاعف أحيانا نتيجة أمانة يوسف وحرصه على عمله، لكن الحظ العاثر لا يغادر هذه الأسرة حتى يعود ويظل بقسوة، فيفقد يوسف عمله تارة بسبب الضبع وخوف الأهل من تعرضه له وهو عائد ليلاً من شرق المدينة إلى جنوبها، أو بسبب أمانته في دائرة دخلها الفساد ليبعد الضابط الروسي الأبيض ويوسف عن العمل في الميرة وينقله إلى طرطوس ثم اللاذقية. وليعود يوسف من جديد إلى البطالة فيدخل كلية الآداب قسم التاريخ ويصبح مدرساً ثم مديراً. على أن الفصل الأخير من حياة أستاذي كان صفحة مشرقة على الرغم من مأساوية الرحيل، فبعد التقاعد اختار وانحاز إلى الأرض، أعطاها الكثير من الجهد والعرق فأصلح ما بها من تصحر، وقدم لتربتها الإنعاش بالحرث، وعقد مع الأشجار صداقة ما تبقى من العمر، بعدما أحس بالإحباط لما رأته عينه من فجوة بين المبادئ والسلوك، اختار الأرض ومات في المكان الذي عشقه موصياً من بعده: أحبوا الأرض واخدموها، الأرض هي الوطن.
بقي أن أشير إلى أن العطّابة هي الزوجة التي أنقذت حياة زوجها وصدت عن رجله هجوم الداء واحتمال القطع فعمدت إلى النار والفتيل. والرواية من أدب السيرة والكاتب على معرفة وثيقة بشخوصه وجغرافيا الرواية وأمكنتها، وهو قامة تربوية معروفة.
رياض طبرة