الاتجاهات السياسية في الوطن العربي
علي اليوسف
لايزال الوطن العربي مركزاً ساخناً، فلعنات الانتدابات والاحتلال العثماني لاتزال تلاحقه اجتماعياً وسياسياً، فيما تحاصره مشاكل السياسة والسكان والاقتصاد وطغيان إنشاء الكيان الإسرائيلي في وسطه، ولكي نقرأ هذه الاتجاهات السياسية والاجتماعية، وحراك الاقتصاد لابد من مقاربة النتاج الفكري تاريخياً الذي سلّط الضوء عليه الكثير من المؤرخين.
لمحة تاريخية
تعجّ فترة ستينيات وسبعينيات القرن بالأيديولوجيات والمدارس والمناهج ذات القيمة المعرفية، حيث طرحت العديد من التساؤلات أهمها: كيف ننمّي؟ كيف نحقق عدالة اجتماعية؟ ما هي مقوّمات الدولة الوطنية؟.
كان نظام الملل العثماني- الدولة العثمانية- يتطابق مع “سيستيم” الأنظمة الاجتماعية السائدة في تلك القرون، الدولة العثمانية هي دولة سلطانية، كالدولة السلجوقية، كدولة المماليك، كون طبيعة السلطة في التاريخ حكمها عنصران: العصبية التي يتحدث عنها ابن خلدون، والدعوة التي أضافها ابن خلدون كأيديولوجية استقواء للعصبية، وفي ظل منظومة الدولة العثمانية نشأت كيانات وطنية سواء في المشرق العربي أو في المغرب العربي، وكانت هناك مجموعة من العوامل: عامل تراثي وهو خصوصيات الأقوام، خصوصيات الإثنيات، العرب وغيرهم، وخصوصيات ثقافية ولغوية، أيضاً التطوّر العالمي الذي حصل في أوروبا كانت له وطأة كبرى على العالم كله بما فيه الوطن العربي، إلى ذلك كان هناك نموذج يتشكّل في أوروبا هو الدولة الوطنية التي تبلورت معالمها كسيادة وطنية في معاهدة “وستفاليا” التي كانت معاهدة حاسمة.
لقد تم الاعتراف بما يسمّى السيادة الوطنية، أو الدولة ذات الحدود التاريخية المعترف بها ضمن منظومة التوازن، إلى جانب الأفكار القومية التي تبلورت في القرن التاسع عشر في أوروبا، وخاصة في فرنسا عبر نموذج جذاب وهو نموذج الثورة الفرنسية وامتداداتها في القرن التاسع عشر، هذا النموذج أثر على نخب محلية طرفية، على نخب عربية فاستوعب الفكر القومي الأوروبي محلياً، وفصل وفقاً لهويات وطنية، فثمة قومية أرمنية، وثمة قومية عربية، حتى في داخل القومية هناك قوميات وهويات داخلية، مثلاً الحركة العربية التي انطلقت مع الثورة العربية في عام 1916 ما لبثت أن تقسّمت أيضاً إلى هويات سورية، لبنانية، عراقية، حجازية إلى آخره، وهنا تدخل العلاقات الدولية، فثمة دينامية داخلية لتبلور الهويات المحلية الطرفية، هذه الهويات المحلية الطرفية التقت مع سياسات دولية تسعى إلى التقسيم، ما يعني أن الدولة الوطنية هي في جزء منها منتج سياسات دولية، وهذا شيء طبيعي كون ترسيم الحدود مسألة دولية، لكن مسألة الهوية تنشأ انطلاقاً من عوامل ذاتية داخلية تتغذّى بعوامل معقّدة جداً ومركّبة داخلية وخارجية، خارجية فكرية، بمعنى أن هناك نموذج دولة قومية Nation State كان يتشكّل في الغرب.
ملامح النهضة العربية
شهدت بلاد الشام ومصر، وتحديداً بيروت وحلب والقاهرة، حركة ثقافية بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين سمّيت النهضة العربية متأثرة بعصر التنوير الغربي، ومبادئ الثورة الفرنسية، داعية إلى نهضة العرب وحريتهم، ومعارضة السلطة المركزية العثمانية، وسياسة التتريك، ومطالبة بإحياء اللغة العربية.
كان للحملات الفرنسية على مصر وبلاد الشام، وقيام محمد علي بإصلاحات كثيرة، ونقل المعارف الأوروبية، ونشوء الجامعات التي أسستها جمعيات تبشيرية، دور في رفع مستوى التعليم وانتشاره، وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وبالتالي تمدد الوعي، حيث برزت حركات إصلاح وجمعيات وأحزاب، ومدارس، واندفاعة يقظة فكرية، وانتماء وطني وقومي، وطالب الكثيرون بالخلاص من العثماني، فيما طالب البعض بالاستقلال ضمن الإطار العثماني، وبالتعريب.
كما نشطت حركة الترجمة والتأليف، ومقاربة الفلسفات العلمية الناهضة في أوروبا، ونتائج البحث العلمي، وبدأت ظاهرة تأسيس الصحف والمجلات المتنوعة في السياسة والأدب والعلوم والطب، وبرزت حركة نسوية ودعوات إلى تحرير المرأة، وحظيت العلوم باهتمام بالغ، وأنشئت مشاريع اقتصادية مثل حفر قناة السويس المصرية، وأقيمت معالم معمارية في القاهرة وبيروت ودمشق، وكانت للنهضة العربية أعلام كثر كالبساتنة، واليازجيين، والشدياق، والشميّل، وجبران، ومي زيادة، وماري عجمي، ومريانا المرّاش، والأفغاني، والكواكبي، والعقّاد، وابن باديس، ونقولا حداد، والإمام محمد عبده، ويوركي حلّاق، وفرح أنطون، والطهطاوي، وغيرهم الكثير.
كانت هناك نهضة عربية، أو مشروع نهضة عربية، لكنها أجهضت لأسباب كثيرة، والسؤال هنا: هل من ملامح الآن لنهضة عربية تتكئ على النهضة السابقة؟.. يقول الباحث وجيه كوثراني في هذا الشأن: لابد من طرح مسألة العلاقة بين الماضي والحاضر، ويؤكد أن هناك انقطاعات، ولكن على أنواع، وهناك انقطاعات إيجابية تهيئ لتجاوز، وانقطاعات تطال الذاكرة التاريخية، ويدخل في الذاكرة التاريخية ما يسمّيه بول ريكور النسيان في كتابه “التاريخ، الذاكرة، النسيان”، مشكلة علاقتنا نحن العرب بالتاريخ علاقة مركّبة، معقّدة، أحياناً نعيد التاريخ كما هو، والتاريخ لا يعيد نفسه، وأحياناً نحيا التاريخ، والتاريخ لا يمكن أن نحياه، نتوهّم أننا نحياه، نقلّد الماضي تقليداً، وأحياناً أيضاً ننسى التاريخ، ونريد أن نبني جديداً، إذاً هناك مشكلة في وعينا التاريخي نحن العرب هو أننا لا نستفيد من التاريخ كدروس، نحاول أن نكرر، وهذا واضح في الأيديولوجيات.
عندما يستشهد المؤرخون القوميون العرب بالدولة الأموية، ترى أن الدولة الأموية كانت دولة قومية، والقومية مسألة حديثة جداً تُنشأ إنشاء وتتكوّن تكويناً، هذا هو النموذج التراثي عند القوميين، وعند الإسلاميين الخلافة الراشدة هي نموذج، هنا تحاول الأيديولوجيا العربية أن تُحيي الماضي، أن تعيش الماضي، في المقابل العلمانيون يريدون أن يقطعوا التاريخ، أن يحدثوا نسياناً وهذا لم يحصل في أوروبا.
المؤرخون الجدد في العالم اكتشفوا أهمية الذاكرة من زاويتين: من زاوية خطرها، ومن زاوية إيجابياتها، من زاوية خطرها أنها تشوّه الماضي، الذاكرة تحمل أحلاماً، تحمل أوهاماً، تحمل أساطير، الذاكرة عادة تحوّل التاريخ إلى أساطير، مثلاً التاريخ الفلسطيني عندما تشوّهه الصهيونية، ماذا تفعل الذاكرة الفلسطينية؟ تصحّح هذا التاريخ، من هنا أهمية الذاكرة الإيجابية في الحالة الفلسطينية عندما يتشوّه التاريخ، لكن الذاكرة أحياناً تشوّه التاريخ فيتدخل التاريخ ليصحّح الذاكرة، فثمة جدلية، وهذا يجب أن يشتغل عليه المؤرخون الجدد، جدلية غنية جداً بين التاريخ والذاكرة.
هناك مغالطة كبيرة ارتكبها المؤرخون العرب بكل اتجاهاتهم أنهم يسمّون الدولة العثمانية دولة الخلافة، ليست دولة الخلافة، كل السلاطين الأقوياء حتى القرن الثامن عشر لم يستخدموا لقب خليفة، كانت ألقابهم السلطانية: “الشاهنشاه، السلطان، العظيم، الخان العظيم، ملك الملوك”، هذه الألقاب التي كانت أكبر وأهم من لقب الخليفة، لقب الخليفة أُعطي للسلطان في معاهدة “كيتشوك كاينارجي”، وهي المعاهدة التي انهزمت فيها الدولة العثمانية في حرب القرم، بناء على هذه المعاهدة استولت روسيا على القرم وأُطلق في هذه المعاهدة في أواخر القرن الثامن عشر لأول مرة لقب خليفة على السلطان، في حين أنه طيلة خمسة قرون لم يُستخدم لقب خليفة، بل على العكس كان السلاطين العثمانيون الأوائل كسليم وسليمان يهزؤون من الخليفة الذي كان عند المماليك في القاهرة، استضافوه في اسطنبول، وأسطورة أن آخر خليفة في عهد المماليك تنازل للسلطان سليم هي أسطورة وضعت في القرن التاسع عشر، واستغلّها السلطان عبد الحميد استغلالاً كبيراً فلقّب نفسه بالخليفة، مسألة الخلافة اخترعها الناس وحاجة الناس إلى رمز، هي مسألة حديثة أكثر مما هي تراثية.
المسيحيون في تشكيل الهوية
لعب الكتّاب والمفكّرون المسيحيون في عصر النهضة دوراً كبيراً في إبراز الهوية العربية، بل أكثر من ذلك كانوا رواداً ودعاة للقومية العربية، ولذلك هناك أسباب سياقية ظرفية لها علاقة بالوعي المبكّر لدى النخبة المسيحية، هذه النخبة العربية المسيحية لعبت دوراً أساسياً نهضوياً وتنويرياً في الثقافة العربية، ولعبت هذا الدور الطليعي في مرحلة ما قبل الخمسينيات، وعليه فإن النصف الأول من القرن العشرين يحتاج إلى إعادة تأريخ، ليس فقط للتأريخ لهذه النخبة المسيحية، بل أيضاً للنخبة التي ظُلمت، كما أن النخبة شبه الليبرالية العربية، مسلمين ومسيحيين، كانت تشكّل فعلاً نخبة واحدة، والنموذج السوري خير مثال، كان في هذه النخبة عدد كبير من الشخصيات السياسية المسيحية التي حكمت في سورية مع النخبة المسلمة، بل أكثر من ذلك إشكال التسمية لم يكن موجوداً، ففارس الخوري لم يكن يخطر في بال أحد أن يصنّف آنذاك داخل هذه النخبة بين مسلم ومسيحي.
للأسف في المجتمعات العربية هناك حمولات دينية ثقيلة كان لها دور في تكوين الهوية، الحقيقة أن التأسيس السياسي على الديني مسألة حديثة، ففي القديم كان جزء كبير من السياسة ينتمي إلى العقل الوضعاني، أما الحديث منها فهو ظاهرة تشكّل “الإخوان المسلمين” في مصر، وهذه كانت الظاهرة الأولى في تأسيس السياسي على الديني، وكان هدفها الوصول إلى السلطة عن طريق الدين لأنه أسهل ويعبّئ الجماهير بشكل عاطفي.
حالياً يعيش الوطن العربي نوعاً من التدمير، في وقت هو أحوج فيه إلى التنوير، ولكن من الواضح أن الدورة التاريخية ستستكمل ذاتها، وانطلاقاً من اليأس ينشأ الأمل، وحركة التاريخ دائماً تذهب نحو التفاؤل، معظم الذين يعيشون المأساة يعيشونها بشكل يائس، ولكن عندما نقرأ التاريخ من بعيد ونستفيد من تجارب التاريخ الماضية نرى فعلاً أن حركة التاريخ في ذهاب وإياب، في صعود وهبوط، لذلك هناك رهان على قيامة للنخب العربية، لكن هناك إشكالاً أنه في أي مكان تنشأ؟.